لنعرف إمامنا وواجبنا بصورة أفضل(1)
تتمة الموضوع
من محاضرات المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)
2. لنعرف وظيفتنا بنحو أفضل أمّا الموضوع الثاني الذي أودّ الإشارة إليه في هذه المناسبة المباركة، فهي معرفة وظيفتنا في عصر الغيبة.
إنّ الوظيفة شيء والرغبة شيء آخر، ويحسن الفصل جيّداً بينهما. تأمّلوا في هذا المثال: إذا مرض شخص ما، حينها تصبح بعض الأغذية مضرّة بالنسبة إليه، وهذا لا يعنى أنّ هذه الأغذية مضرّة بذاتها، بل هي حسنة في الأصل، ولكنّها لا تصلح لهذا الشخص بسبب مزاحمة الأهمّ في حقّه. فتناول هذه الأغذية تشكّل رغبة لهذا الشخص، ولكنّ وظيفته شيء آخر.
فكذلك الحال بالنسبة لنا تجاه المولى صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. إنّ لنا في لقائه سلام الله عليه رغبة، ولنا إزاءه وظيفة، فإذا كان هذان الأمران قابلين للجمع فما أحسن ذلك! أمّا إذا لم يمكن الجمع بينهما فهل على الفرد أن يسعى لتحقيق الرغبة أم العمل بالوظيفة؟ لا شكّ أنّ الواجب هو السعي للعمل بالوظيفة. إنّ علقتنا الشديدة ـ جميعاً ـ بوليّ العصر صلوات الله وسلامه عليه هو الذي يدفعنا لأن نهتمّ ونعمل ونجدّ ونجتهد لسلوك الطريق الذي ينتهي بنا إلى التوفيق للانضواء تحت لوائه الشريف، أمّا الأمل بزيارة حضرته في عصر الغيبة، فهو مطلب مهمّ أيضاً ولكنه رغبة عظيمة؛ فمن وُفّق لها فقد نال مقاماً شامخاً وشرفاً رفيعاً، ولكنّها ليست الوظيفة.
إنّه لشرف كبير وكرامة عظيمة أن يلتقي الإنسان بإمامه عليه السلام عن قرب ويقبّل يده، وهذا لا شكّ فيه ولا شبهة، ولكن هل هذا هو ما يريده الإمام منّا؟ وهل هذا هو واجبنا؟
الواجب مقدّم على الرغبة .. وهو تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه، صحيح أنّ الذين وفّقوا أو سيوفّقون أو هم موفّقون لنيل هذا الشرف العظيم بلقاء الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف وزيارته في الغيبة الكبرى، هم ـ في الغالب وحسب القاعدة ـ ممّن يعرفون الواجب ويعملون به، وإلاّ لما حصلوا على هذا الشرف، ولكن هذا ـ أي الطموح للقائه عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ ليس هو الواجب، بل من الأفضل أن نجمع بينهما، وإلاّ فإنّ الواجب مقدّم على الرغبة، والواجب هو معرفة الواجبات الشرعية والعمل بها وتشخيص المحرّمات والاجتناب عنها، تجاه النفس والآخرين، وتعليم الجاهلين كلّ حسب قدرته ومعرفته، والسعي لكسب المزيد من المعرفة على هذا الطريق.
إنّ المسؤولية هي تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه، وتقع على عاتق كلّ فرد، سواء كان رجلاً أو امرأة، زوجاً أو زوجة، أولاداً أو آباءً وأمّهات، أساتذة أو تلاميذ، وباعة أو مشترين، ومؤجّرين أو مستأجرين، وجيراناً أو أرحاماً، وفي كلّ الظروف والأحوال.
على كلّ فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؛ وما هي الواجبات المترتّبة عليه، وما هي المحرّمات التي يجب عليه الانتهاء عنها.
وعلى كلّ فرد منّا أن يعرف ما هي الواجبات بحقّه وما هي المحرّمات عليه. فعلى الزوج أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه عائلته وتجاه الآخرين، وكذا المرأة عليها أن تسعى لمعرفة ما يجب عليها تجاه زوجها وأولادها والمجتمع. وهكذا الأولاد تجاه والديهم والوالدين تجاه الأبناء، وكذا الإخوة فيما بينهم، وهكذا الجيران والأرحام والمتعاملون بعضهم مع بعض.
إنّ الواجب هو أن يعرف الإنسان أحكامه ـ ولا أقلّ من الواجبات والمحرّمات ـ ثم يلتزم بها. وعلى رأس الواجبات معرفة المولى صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه وعجّل الله تعالى فرجه الشريف. وهذا واجب الجميع فإنّه (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(18).
ولكي لا يموت أحدنا بحكم الكافر، عليه أن يعرف ما هي واجباته وما هي المحرّمات عليه، فيما يخصّ العقائد والعمل، لنفسه وللآخرين.
يقول الفقهاء: إنّ على كلّ شخص أن يسعى للحصول على ملَكة العدالة في نفسه، وهذا من المسلّمات، وهو ـ على حدّ التعبير العلمي ـ مقدّمة وجود الواجب المطلق. . إذن على كلّ فرد منّا سواء كان رجلاً أو امرأة، شاباً أو شيخاً، أن يحصل على ملَكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات أو التخلّف عن الواجبات، ثمّ عليه بتعليم الآخرين حسب مقدرته ومعرفته.
أمّا ما لا يعرفه فيلتعلّمه إن كان يستطيع ذلك، ثمّ يعلّمه للآخرين، فإنّ نسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى العلم هي نسبة الواجب المطلق، وليس المشروط، ولكنّه واجب كفائي، فإذا لم يكن مَن فيه الكفاية صار واجباً عينياً أيضاً. أي أنّ على كلّ شخص مكلّف أن يتعلّم الواجبات والمحرّمات التي عليه وعلى الآخرين للعمل بها وتعليمها والأمر بها للوصول إلى حدّ تتحقّق فيه الكفاية.
فهذا هو الواجب، وهذا ما يسرّ الإمام الحجّةعجل الله تعالى فرجه الشريف، ويجعله يرضى عنّا. فإنّ مَن أدّى واجبه بصورة صحيحة كان مرضيّاً عند الإمام سلام الله عليه أمّا مَن لم يؤدِّ واجبه فليس بمرضيّ عنده.
الشيخ المفيد رحمه الله نال أوسمة من الحجّة لم ينل مثلها أحد .. لو راجعتم كلّ ما وصلنا من عبارات المدح والتقريظ من الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين بشأن جملة من الأفراد، وخاصّة نوّابه الأربعة الخاصّين، والسفراء الآخرين ووكلائه(19) قد لا تجدون في كلّ كلمات المديح والتقريظ التي تفضّل بها الإمام عليه السلام بحقّ هؤلاء الأشخاص ما يرتقي لمستوى ما قاله سلام الله عليه بحق الشيخ المفيد رحمه الله؟
ينقل العلاّمة المجلسي في كتابه "بحار الأنوار" رسالتين عن الإمام الحجّة سلام الله عليه إلى الشيخ المفيد(20) يذكر فيهما بعض المطالب التي في بعضها إشارة بالمدح للشيخ المفيد، وهذا المدح قد لا تجدون لـه نظيراً حتّى في حقّ نوّابه الخاصّين وهم الحسين بن روح والسمري والعمريّان.
إننا نلمس تقريظاً من خلال هاتين الرسالتين والعبائر الأخرى التي نُقلت عنه سلام الله عليه بحقّ المفيد ما لا نلمسه ـ من حيث المجموع ـ بحقّ أيّ شخصية أخرى على الإطلاق، ممّن تشرّفوا بلقاء الحجّة سلام الله عليه.
فمما ورد في إحدى هاتين الرسالتين الموجّهتين للشيخ المفيد رحمه الله قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف:
للأخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد النعمان (أدام الله إعزازه) من مستودع العهد المأخوذ على العباد.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: سلام عليك أيها المولى المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك ـ أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق ـ : أنه قد أُذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك ـ أعزهم الله بطاعته، وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته ـ فقف ـ أيّدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه ـ على ما نذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله.
نحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذلّ الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لايعلمون.
إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حمّ أجله ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومبائتكم بأمرنا ونهينا، والله متمّ نوره ولو كره المشركون ... والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا، على صاحبها السلام:
هذا كتابنا عليك أيها الأخ الولي، والمخلص في ودّنا الصفي، والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به، ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما لـه ضمناً أحدا، وأدّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين(21).
أقول: إنّه لشرف كبير ومصدر فخر واعتزاز أن يمثل الشخص بين يدي الإمام عليه السلام ويكون في حضرته؛ يزوره عياناً ويتشرّف برؤيته وتقبيل يده.
فهنيئاً ـ وألف هنيئاً ـ لأمثال الحاجّ عليّ البغدادي والسيّد بحر العلوم وغيرهما ممّن نالوا هذا الشرف الكبير وهذا المجد الرفيع وهذه الكرامة. ولكن ـ اعلموا أيّها الإخوان ـ إنّ هذا ليس هو الواجب فإنّه لم يبلغنا عن الشيخ المفيد رحمه الله أنّه التقى بالحجّة ـ لا يُعرف ما هو السبب، وربما التقاه ولم يصلنا خبره ـ ولكنّه مع ذلك نال هذه الأوسمة منه سلام الله عليه.
بمقدار ما نعمل بواجبنا يرضى عنّا الحجّة .. على كلّ حال إنّ مسؤوليتنا هي التي يرضى بها الإمام عليه السلام عنّا إن نحن عملنا بها، وإذا أردنا أن نعرف نسبة رضاه عنّا فلنفكّر مع أنفسنا في مدى معرفتنا للواجب والمسؤولية والعمل بهما ـ تجاه أنفسنا والآخرين، أقرباء وأرحاماً وسواهم ـ هذه أهم مسألة وواجب يتحتّم علينا عمله في عصر الغيبة، وإنّ الدرجات التي تُمنح في الآخرة ستكون على هذا الأساس أيضاً.
نسأل الله أن نبقى أحياء حتّى ندرك ظهور الحجةعجل الله تعالى فرجه الشريف، ونكون في خدمته وفي ركابه، ولكن اعلموا أنّه حتّى درجات ذلك اليوم
تعطى على أساس دورنا وعملنا وإنجاز وظيفتنا اليوم.
أويس القرني أفضل من كثير من الصحابة! .. ولتكن لنا في أويس القرني قدوة وعبرة، فإنّ هذا العبد الصالح لم يوفّق لأن يدرك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مع أنّه كان في عصره، فقد كان يعيش في اليمن، وعندما توجّه منها إلى المدينة لرؤية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وزيارته لم يدركه الوقت، فحينها كان صلى الله عليه وآله وسلم قد استشهد. وتأثّر أويس لذلك كثيراً. ولكن هل تعلمون أنّ أويساً هذا مقدّم على كثير ممّن صحبوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟
فإذا أردتم التحقّق من ذلك فانظروا إلى سيرته: يُنقل أنّه كان أحد الأشخاص يسبّ أويساً كلّما مرّ به أو التقاه. وفي إحدى المرّات رآه أويس يقبل من بعيد فغيّر طريقه.
ـ ربّما كثير من الناس يتجنّب المواجهة مع مَن يريد سبّه، لأنّه قد تتوتّر أعصابه أو يراق ماء وجهه بين الناس. ولكن أويساً لم يغيّر طريقه لهذه الأسباب ـ وعندما سألوه عن السبب أجاب قائلاً: لئلاّ يقع ذلك الشخص (السابّ) في المعصية(22).
إذن فلنقتد بمثل هذه النماذج الخيّرة لننال ـ إن شاء الله تعالى ـ رضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّتنا الطاهرين عليهم السلام لاسيما مولانا الإمام الحجّة المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف.
ختاماً: ونحن في عصر الغيبة إن أردنا أن نكسب رضا مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فعلينا أن ندرك أنّ هذا الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً وأكيداً بمدى معرفتنا للمسؤولية والواجب الملقى علينا ليتسنّى لنا العمل بهما.
أرجو من الله تعالى ببركة هذه الأيام، وببركة ميلاد الإمام ووجوده المقدّس وآبائه الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، أن يزيد في توفيق مَن كانت عنده هذه الخصلة ـ أي معرفة الواجب في عصر الغيبة ـ وأن يمنحها لمَن يفتقدها.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
الهوامش:
--------------------------------------------------
(18) بحار الأنوار: ج23 ص89 ح35 باب وجوب معرفة الإمام.
(19) إنّ السفراء هم غير النوّاب الأربعة، فقد سمي غير هؤلاء الأربعة سفراء وإن أُطلق عليهم أيضاً، فهم السفراء المطلقون، وكان هناك للإمام سفراء محدّدون كمَن كاتبوا الإمام سلام الله عليه وأجابهم، وثمّة بعض الكتب التي كتبها الإمام ابتداءً لبعض أصحاب أبيه وجدّه عليهم السلام (عنه،حفظه الله).
(20) قال المجلسي وآخرون: إنّ هذه الرسائل كانت ثلاثاً ضاعت واحدة منها ولم تصلنا (عنه حفظه الله).
(21) الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص318 ـ324، توقيعات الناحية المقدّسة.
(22) انظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج9 ص421.