اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان في شمائله آية الإنسانية الفضلى، ما رآه أحد إلا هابه، ولا خالطه إنسان إلا أحبه، ولا سمعه صديق أو عدو وهو يتحدث أو يخطب فهان عليه أن ينهي حديثه أو يسكت.
وقال محمد بن إسحاق: (ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ما بلغ الحسن بن عليّ. كان يبسط له على باب داره فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمرّ أحد من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس).
ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشى، فما من خلق الله أحد إلا نزل ومشى حتى سعد بن أبي وقاص، فقد نزل ومشى إلى جنبه.
وروى المؤرخون عن تواضعه وكرم أخلاقه عشرات الروايات فمن ذلك انه اجتاز على جماعة من الفقراء وقد جلسوا على التراب يأكلون خبزاً كان معهم فدعوه إلى مشاركتهم فجلس معهم وقال: (إن الله لا يحب المتكبرين)، ولما فرغوا من الأكل دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم وأغدق عليهم من عطائه، ومرة أخرى مر على فقراء يأكلون فدعوه إلى مشاركتهم، فنزل عن راحلته وأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وأعطاهم، وقال: (اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني ونحن نجد ما أعطيناهم). وكان من كرمه أنه أتاه رجل في حاجة، فقال له: (أكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا). قال: فرفعها إليه فأضعفها له، فقال له بعض جلسائه: (ما كان أعظم بركة الرفعة عليه يا ابن رسول الله!). فقال: (بركتها علينا أعظم، حين جعلنا للمعروف أهلاً. أما علمتم أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فأما من أعطيته بعد مسألة، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً يميل بين اليأس والرجاء لا يعلم بما يرجع من حاجته ابكأية الرد، أم بسرور النجح، فيأتيك وفرائصه ترعد وقلبه خائف يخفق فإن قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه، فإن ذلك أعظم ممّا نال من معروفك).
وأعطى شاعراً فقال له رجل من جلسائه: (سبحان الله أتعطي شاعراً يعصى الرحمن ويقول البهتان!). فقال: (يا عبد الله إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك وإن من ابتغاء الخير اتقاء الشر).
وسأله رجل فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له: (ائت بحمال يحمل لك). فأتى بحمال، فأعطاه طيلسانه، وقال: هذا كرى الحمال).
وجاءه بعض الأعراب. فقال: (أعطوه ما في الخزانة!.. فوجد فيها عشرون ألف درهم. فدفعت إليه، فقال الإعرابي: (يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي فقال الإمام الحسن (عليه السلام):
نحــــن أناس نــــوالــــنا خضل يرتــــــــع فـــيه الرجاء والأمل
تجود قبل الســـــؤال أنـــــفسنا خوفاً على ماء وجه من يسل(14)
ومرّ به رجل من أهل الشام ممن غذّاهم معاوية بالحقد والكراهية لعليّ وآل عليّ فجعل للإمام الحسن (عليه السلام) السب والشتم والإمام ساكت لا يتكلم وهو يعلم بأن الشامي لا يعرف عليّا وآل عليّ إلا من خلال الصورة التي كان معاوية بن هند يصورهم بها وعندما انتهى الشامي من حديثه بما فيه من حلف وفظاظة ابتسم إليه وتكلم معه بأسلوب هادئ ينم عن سماحة وكرم متجاهلاً كل ما سمع وما رأى، وقال: (أيها الشامي أظنك غريباً فلو أنك سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، وإن كنت جائعاً أطعمناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، أو طريداً آويناك)، ومضى يتحدث إلى الشامي بهذا الأسلوب الذي يفيض بالعطف والرحمة حتى ذهل الشامي وسيطر عليه الحياء والخجل وجعل يتململ بين يديه يطلب عفوه وصفحه ويقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وهكذا كان في جميع مواقفه مثالاً كريماً للخلق الإسلامي الرفيع الذي دعا إليه القرآن الكريم بقوله تعالي: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(15). لقد قابل جميع ما كان يوجه إليه من الأذى والمكروه من أخصامه وحساده بالصبر والصفح الجميل حتى اعترف له ألد أخصامه وأنكرهم بذلك، فقد روى المؤرخون أن مروان بن الحكم أسرع إلى حمل جنازته ومشى مع المشيعين والكآبة بادية عليه، فقال له أبو عبد الله الحسين (عليه السلام): (إنك لتحمل جنازته وقد كنت بالأمس تجرعه الغيظ، فقال: لقد كنت أفعل ذلك مع من يوازي حمله الجبال.
ورأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمة فقال له: (ما حملك على هذا؟) قال: (إني استحي منه أن آكل ولا أطعمه). فقال له الحسن (عليه السلام): (لا تبرح مكانك حتى آتيك). فذهب إلى سيده، فاشتراه واشترى الحائط (البستان) الذي هو فيه، فأعتقه، وملّكه الحائط.
وسأله رجل أن يعطيه شيئاً فقال له: (إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة)(16)، فقال له: ما جئتك إلا في إحداهن فأعطاه مائة دينار، ثم اتجه الرجل إلى الحسين (عليه السلام) فأعطاه تسعة وتسعين ديناراً وكره أن يساوي أخاه في العطاء، ثم ذهب الرجل إلى عبد الله بن جعفر فأعطاه أقل منهما ولما قص عليه ما جرى معهما، قال له: ويحك أتريد أن تجعلني مثلهما إنهما غرا العلم والمال غراً.
ويروي المؤرخون عن سخائه أيضاً أن جماعة من الأنصار كانوا يملكون بستاناً يتعايشون منه فاحتاجوا لبيعه فاشتراه منهم بأربعمائة ألف، ثم أصابتهم ضائقة بعد ذلك اضطرتهم لسؤال الناس، فرد عليهم البستان حتى لا يسألوا أحداً شيئاً.
وروى المؤرخون صوراً كثيرة من ألوان بره وكرمه ومعروفه التي كان يغرق بها على السائلين والفقراء والمحرومين لإنقاذهم ممّا كانوا يعانون من آلام الحاجة والبؤس ابتغاء وجه الله وثوابه لا للجاه ولا للدنيا ولا تدعيم ملك وسلطان ولا لمكافأة على المديح والثناء كما كان يصنع معاوية وغيره من الأمويين والعباسيين، ومن يتلذذون بالمديح والإطراء والجاه والسلطان. وأخبار كرمه كثيرة لسنا بسبيل استقصائها، وهذا مقدار يسير من أحاديث الرواة عن كرمه ومعروفه وإن كان الكثير ممّا يرويه الرواة يخضع للنقد والحساب، إلا أن القليل المتفق عليه بينهم يكفي لأن يجعله في القمة بين أجواد العرب الذين لا يرون للمال وزناً ولا يحسبون له حساباً.
الإمام الحسن ... القائد والأسوة
الشيخ حسين سليمان سليمان