
موعظة الإمام (عليه السلام) لأهل الكوفة
واستمرّ الإمام (عليه السلام)في تقريعهم ووعظهم إذ قال الإمام (عليه السلام) : أما والذي نفسي بيده ، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ; ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم ، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم ، وإبطائكم عن حقّي . ولقد أصبحت الأُمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي .
استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تسمعوا ، ودعوتكم سرّاً وجهراً فلم تستجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، أشهود كغيّاب ، وعبيد كأرباب ! أتلوا عليكم الحِكَم فتنفرون منها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها ، وأحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبأ ([1819])، ترجعون إلى مجالسكم ، وتتخادعون عن مواعظكم ، أُقوّكم غُدوة ، وترجعون إليّ عشيّة ، كظهر الحَنِيّة ([1820])، عجز المقوّم ، وأعضل المقوَّم .
أيّها القوم الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أُمراؤهم ، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، لوددت الله أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ; فأخذ منّي عشرة منكم ، وأعطاني رجلا منهم !
ياأهل الكوفة ! مُنيت منكم بثلاث واثنتين : صُمٌّ ذوو أسماع وبكمٌ ذوو كلام ، وعُميٌ ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللقاء ، ولا إخوان ثقة عند البلاء ! تَرِبت أيديكم ! ياأشباه الإبل غاب عنها رعاتها ! كلّما جُمعت من جانب تفرّقت من آخر ، والله لكأنّي بكم فيما إخالُكم ([1821])أن لو حَمِس الوغى ، وحمي الضراب ، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قُبُلِها ، وإنّي لعلى بيّنة من ربّي ، ومنهاج من نبيّي ، وإنّي لعلى الطريق الواضح أَلقُطَه لَقْطاً ([1822]).
وأضاف (عليه السلام): ألا ترون يامعاشر أهل الكوفة ، والله لقد ضربتكم بالدرّة التي أعظ بها السفهاء ، فما أراكم تنتهون ، ولقد ضربتكم بالسياط التي أُقيم بها الحدود ، فما أراكم ترعوون ، فما بقي إلاّ سيفي ، وإنّي لأعلم الذي يقوّمكم بإذن الله ، ولكنّي لا أُحبّ أن ألي تلك منكم .
والعجب منكم ومن أهل الشام ، أنّ أميرهم يعصي الله وهم يطيعونه ، وأنّ أميركم يطيع الله وأنتم تعصونه ! إن قلت لكم : انفروا إلى عدوّكم ، قلتم : القرّ يمنعنا ! أفترون عدوّكم لا يجدون القرّ كما تجدونه ؟ ولكنّكم أشبهتم قوماً قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : انفروا في سبيل الله ، فقال كبراؤهم : لا تنفروا في الحرّ ، فقال الله لنبيّه : (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) ([1823]).
والله لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ، ولو صببت الدنيا بحذافيرها على الكافر ما أحبّني ، وذلك أنّه قضى ما قضى على لسان النبي الأُمّي أنّه لا يبغضك مؤمن ، ولا يحبّك كافر ، وقد خاب من حمل ظلماً وافترى .
يامعاشر أهل الكوفة ! والله لتصبرُنّ على قتال عدوّكم ، أو ليسلّطن الله عليكم قوماً أنتم أولى بالحقّ منهم ، فليعذبنّكم ، وليعذبنّهم الله بأيديكم أو بما شاء من عنده ، أفمن قتلة بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش ؟! فاشهدوا أنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)يقول : موتة على الفراش أشدّ من ألف ضربة بسيف ([1824]).
ما أظنّ هؤلاء القوم ـ يعني أهل الشام ـ إلاّ ظاهرين عليكم ، فقالوا له : بماذا ياأمير المؤمنين ؟
قال : أرى أُمورهم قد علت ونيرانكم قد خبت ، وأراهم جادّين وأراكم وانين ، وأراهم مجتمعين وأراكم متفرّقين ، وأراهم لصاحبهم مطيعين وأراكم لي عاصين .
أم والله لئن ظهروا عليكم لتجدنّهم أرباب سوء من بعدي لكم ، لكأنّي أنظر إليهم وقد شاركوكم في بلادكم ، وحملوا إلى بلادهم فيئكم ، وكأنّي أنظر اثليكم تِكِشّون ([1825])كشيش الضباب ; لا تأخذون حقّاً ولا تمنعون لله حرمة ، وكأنّي أنظر إليهم يقتلون صالحيكم ، ويُخيفون قرّاءكم ، ويحرمونكم ويحجبونكم ، ويُدنون الناس دونكم ، فلو قد رأيتم الحرمان والأثرة ، ووقع السيف ، ونزول الخوف ، لقد ندمتم وخسرتم على تفريطكم في جهادهم ، وتذاكرتم ما أنتم فيه اليوم من الخَفْض ([1826]) والعافية حين لا ينفعكم التذكار ([1827]).
قال الإمام (عليه السلام): أيّها الناس ! فإنّكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردّكم عنها ، ثمّ بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إيّاها ، فتوثّب عليَّ متوثّبون ، كفى الله مؤونتهم ، وصرعهم لخدودهم ، وأتعس جدودهم ، وجعل دائرة السوء عليهم .
وبقيت طائفة تُحدِث في الإسلام أحداثاً ; تعمل بالهوى ، وتحكم بغير الحقّ ، ليست بأهل لما ادّعت ، وهم إذا قيل لهم : تقدّموا قدماً ، تقدّموا ، وإذا قيل لهم : أقبِلوا أقبَلوا ، لا يعرفون الحقّ كمعرفتهم الباطل ، ولا يُبطلون كإبطالهم الحقّ .
أما إنّي قد سئمت من عتابكم وخطابكم ، فبيّنوا لي ما أنتم فاعلون ; فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوّي فهو ما أطلب وأُحبّ ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرى رأيي . فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوّكم فتقاتلوهم حتّى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين لأدعونّ الله عليكم ، ثمّ لأسيرنّ إلى عدوّكم ولو لم يكن معي إلاّ عشرة .
أأجلاف أهل الشام وأعرابها أصبر على نصرة الضلال ، وأشدّ اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقّكم ؟ ما بالكم ؟ ما دواؤكم ! إنّ القوم أمثالكم لا يُنشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة ([1828]).
وأضاف الإمام علي (عليه السلام): اتّقوا الله عباد الله وتحاثّوا على الجهاد مع إمامكم ; فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر ; إذا أمرتهم أطاعوني ، وإذا استنهضتم نهضوا معي ، لأستغنيت بهم عن كثير منكم ، وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه ; فإنّه الجهاد المفروض ([1829]).
وأضاف الإمام علي (عليه السلام): وددت والله أنّ لي بكلّ عشرة منكم رجلا من أهل الشام وأنّي صرفتكم كما يُصرَف الذهب ، ولوددت أنّي لقيتهم على بصيرتي فأراحني الله من مقاساتكم ومداراتكم كما يُدارى البِكارُ العَمِدة والثياب المنهرئة كلّما خِيطت من جانب تهتّكت من جانب ([1830]).
وقال : أيّها القوم الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أُمراؤهم . صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، لوددت والله أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ; فأخذ منّي عشرة منكم ، وأعطاني رجلا منهم ([1831]).
.
ـــــــــــــ
([1819]) أيادي سبأ : مثل يضرب للمتفرّقين وأصله قوله تعالى عن أهل سبأ : (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق) (شرح نهج البلاغة 7 / 74) .
([1820]) الحَنِيّة : القوس (لسان العرب 14 / 203) .
([1821]) إخالُكَ : أظنّك (لسان العرب 11 / 226) .
([1822]) انفراج المرأة عن قبلها يكون عند الولادة أو عندما يُشرع عليها سلاح . وفيه كناية عن العجز والدناءة في العمل . نهج البلاغة الخطبة 97 .
([1823]) سورة التوبة 81 .
([1824]) الغارات 1 / 42 عن فرقد البجلي ، شرح نهج البلاغة 2 / 195 عن رفيع بن فرقد البجلي نحوه .
([1825]) الكَشيش : الصوت يشوبه خَوَر مثل الخشخشة وكشيش الأفعى : صوتها من جلدها لا من فمها . يقرّع (عليه السلام)أصحابه بالجبن والفشل ويقول لهم لكأنّي أنظر إليكم وأصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذي قد اعتراكم فهي أشبه شيء بأصوات الضباب المجتمعة (شرح نهج البلاغة 7 / 304) .
([1826]) الخَفْض : الدَّعة والسكون (النهاية 2 / 54) .
([1827]) الإرشاد 1 / 274 ، الغارات 2 / 511 عن عمرو بن محصن ، الإمامة والسياسة 1 / 172 كلاهما نحوه .
([1828]) أنساب الأشراف 3 / 235 .
([1829]) الإرشاد 1 / 263 ، الاحتجاج 1 / 408 ح88 ، بحار الأنوار 32 / 390 ح360 .
([1830]) البكار : جمع بَكْر ; وهو الفتيّ من الإبل . العَمِدة : من العَمَد : الورم والدَّبَر . وقيل : العَمِدة : التي كسرها ثقل حملها (النهاية 3 / 297) . أنساب الأشراف 3 / 198 ، وراجع تاريخ دمشق 1 / 321 وكنز العمّال 11 / 356 ح31727 .
([1831]) نهج البلاغة الخطبة 97 ، الاحتجاج 1 / 411 و412 / 89 نحوه .