اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الآيات
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى (116)فَقُلْنَا يَـآدَمُ إِنَّ هَـذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى(119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـنُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لاَ يَبْلَى (120) فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَـهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
التّفسير
آدم ومكر الشّيطان:
كان القسم الأهمّ من هذه السورة في بيان قصّة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، والمواجهة بينهم وبين فرعون وأنصاره، إلاّ أنّ هذه الآيات وما بعدها تتحدّث عن قصّة آدم وحواء، وعداء ومحاربة إبليس لهما. وربّما كانت إشارة إلى أنّ الصراع بين الحقّ والباطل لا ينحصر بأمس واليوم، وموسى (عليه السلام) وفرعون، بل كان منذ بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.
وبالرغم من أنّ قصّة آدم وإبليس قد وردت مراراً في القرآن، إلاّ أنّها تمتزج في كلّ مورد بملاحظات ومسائل جديدة، وهنا تتحدّث أوّلا عن عهد الله إلى آدم فتقول: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً).
هناك عدّة آراء في ماهيّة العهد المذكور، فقال البعض: إنّه أمر الله بعدم الإقتراب من الشجرة الممنوعة، وهناك روايات متعدّدة تؤيّد هذا المعنى. في حين أنّ بعض المفسّرين إحتملوا إحتمالات أُخرى يمكن إعتبارها بمثابة الأغصان والأوراق لهذا المعنى، كإخطار الله لآدم بأنّ الشيطان عدوّ مبين له، ويجب أن لا يتبعه.
وأمّا «النسيان» هنا فمن المسلم أنّه ليس بالمعنى المطلق، لأنّه لا معنى للعتاب والملامة في النسيان المطلق، بل إنّه إمّا بمعنى الترك كما نستعمل ذلك في مكالماتنا اليوميّة، فقد نقول لمن لم يف بعهده: أنسيت عهدك؟ أي إنّك كالناسي. أو أنّه بمعنى النسيان الذي يطرأ نتيجة قلّة الإنتباه وشرود الذهن.
والمراد من «العزم» هنا هو التصميم والإرادة القويّة الصلبة التي تحفظ الإنسان من الوقوع تحت تأثير وساوس الشيطان القويّة.
وعلى كلّ حال، فلا شكّ أنّ آدم لم يرتكب معصية، بل بدر منه ترك الأُولى، أو بتعبير آخر، فإنّ مرحلة وجود آدم في الجنّة لم تكن مرحلة تكليف، بل كانت مرحلة تجريبيّة للإستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبل المسؤولية، خاصةً وإن نهي الله هنا كان نهياً إرشادياً، لأنّه قد أخبره بأنّه إن أكل من الشجرة الممنوعة فسيبتلى بالشقاء. وقد أوردنا تفصيل كلّ ذلك، وكذلك المراد من الشجرة الممنوعة وأمثال ذلك في ذيل الآيات 19 ـ 22 من سورة الأعراف.
ثمّ أشارت إلى جانب آخر من هذه القصّة، فقالت: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى) ومن هنا يتّضح مقام آدم العظيم، آدم الذي سجدت له الملائكة، وأبدت هذه المخلوقات العظيمة إحترامها إيّاه. كما أنّ عداوة إبليس تجلّت له ضمناً من أوّل الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظمه.
لا شكّ أنّ السجدة لا تعني السجدة الخاصّة بعبادة الله، ولا أحد أو موجود يستحقّ أن يكون معبوداً من دون الله سبحانه، وبناءً على هذا فإنّ هذه السجدة كانت لله، غاية ما هناك أنّها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. أو أنّ السجدة هنا تعني الخضوع والتواضع.
على كلّ حال، فإنّ الله سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله (فقلنا ياآدم إنّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنّة فتشقى).
من الواضح أنّ الجنّة هنا لا يراد منها جنّة الخلود في العالم الآخر، والتي هي نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها، بل كانت بستاناً فيه كلّ شيء ممّا في بساتين هذه الدنيا، ولم يكن فيها نصب ولا غصّة بلطف الله، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أنذر آدم بأنّك إن خرجت من هذا النعيم فإنّك ستشقى. وكلمة «تشقى» من مادّة الشقاء، وأحد معانيها الألم والمشقّة.
سؤال: لماذا خاطب الله الإثنين معاً ـ أي آدم وحواء ـ في بداية الأمر فقال: (فلا يخرجنكما) إلاّ أنّه ذكر نتيجة الخروج بصيغة المفرد في شأن آدم فقط فقال: (فتشقى)؟
والجواب هو:إنّ هذا الإختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ الآلام والأتعاب كانت تصيب آدم في الدرجة الأُولى، فإنّه كان مأموراً بتحمّل مسؤوليات زوجته أيضاً، وهكذا كانت مسؤولية الرجال من بداية الأمر. أو أنّ العهد لما كان من البداية على عاتق آدم، فإنّ النهاية أيضاً ترتبط به.
ثمّ يبيّن الله لآدم راحة الجنّة وهدوءها، وألم ومشقّة الخروج منها، فيقول:
(إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى).
وهنا سؤال يوجّه للمفسّرين، وهو: لماذا إقترن ذكر الظمأ بضحى الشمس، والجوع بالعري، في حين أنّ المعتاد ذكر العطش مع الجوع؟
قيل في الجواب: إنّ بين العطش وأشعّة الشمس علاقة لا يمكن إنكارها. («تضحى» من مادّة «ضحى» أي إشراق الشمس من دون أن يحجبها حاجب من سحاب وأمثاله).
وأمّا الجمع بين الجوع والعري فقد يكون بسبب أنّ الجوع نوع من عراء الجوف وخلوّه من الغذاء! والأفضل أن يقال: إنّ هذين الوصفين ـ الجوع والعري ـ علامتان واضحتان للفقر تأتيان معاً عادةً.
وعلى كلّ حال، فقد اُشير في هاتين الآيتين إلى أربع إحتياجات أصلية وإبتدائية للإنسان، أي: الحاجة إلى الغذاء، والماء، واللباس ـ للحماية من حرارة الشمس ـ والمسكن، وكان تأمين هذه الحاجات نتيجة توفّر النعمة، وذكر هذه الاُمور في الواقع توضيح لما جاء في جملة «فتشقى».
لكن، ومع كلّ ذلك، فإنّ الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم، ولهذا لم يهدأ له بال: (فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى).
«الوسوسة» في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّاً، ثمّ قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيّئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان، أو من خارجة.
إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أي شيء، فوجد أنّ رغبته في الحياة الخالدة والوصول إلى القدرة الأزليّة، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين وإستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر الله. وبتعبير آخر: فكما أنّ الله قد وعد آدم بأنّك إن تجنّبت الشيطان وخالفته فستحظى بالتنّعم في الجنّة دائماً، فإنّ
الشيطان قد وسوس إليه عن هذا الطريق «أي أنّه سيخلد في الجنّة أيضاً».
أجل .. إنّ الشياطين يبدؤون دائماً في بادية خططهم من نفس النقاط والطرق التي يبدأ منها المرشدون إلى طريق الحقّ، لكن لا تمرّ الأيّام حتّى يجروهم إلى هاوية الإنحراف، ويجعلون جاذبية طريق الحقّ وسيلة للوصول إلى المتاهات.
وأخيراً وقع المحذور، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة، فتساقط عنهما لباس الجنّة، فبدت أعضاؤهما: (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما)(1) فلمّا رأى آدم وحواء ذلك إستحييا (وطفّقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة)(2). نعم، لقد كانت العاقبة المؤسفة (وعصى آدم ربّه فغوى).
«غوى» أُخذت من مادّة الغي، أي العمل الصبياني الناشىء من إعتقاد خاطىء، ولمّا كان آدم هنا قد أكل ـ جهلا وإشتباهاً ـ من الشجرة المحرّمة، نتيجة للظنّ الذي حصل له من قول الشيطان، فقد عُبّر عن عمله بـ(غوى).
وفسّره بعض المفسّرين بأنّه الجهل الناشىء عن الغفلة، والبعض فسّرها بالمحرومية، والبعض الآخر بالفساد في الحياة.
وعلى كلّ حال فإنّ «الغي» يقابل «الرشد»، والرشد هو أن يسلك الإنسان طريقاً يوصله إلى هدفه ومقصده، أمّا الغي فهو عدم الوصول إلى المقصود.
ولكن لمّا كان آدم نقيّاً ومؤمناً في ذاته، وكان يسير في طريق رضى الله سبحانه، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة إستثنائية، فإنّ الله سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد، بل (ثمّ إجتباه ربّه فتاب عليه وهدى).
الأمثل في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل