وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
كما أن الأجسام تمرض فتفقد صحتها، وتحتاج إلى علاج يعدل انحرافها ويعيد إليها الصحة المفقودة. كذلك الأرواح والنفوس، فإنها تمرض بانحرافها إلى الرذائل والصفات الذميمة، فتحتاج عند ذلك إلى العلاج بما يقوم أودها ليرجعها سيرتها الأولى من صحة الاتصاف بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، وبعبارة أوضح أن الأرواح والنفوس إذا تغلبت عليها الرذائل من الصفات وتسيطر عليها الشهوات الحيوانية والعواطف الدنيئة انحرفت صحتها وفقدت رونقها الروحي وميزتها النفسية التي بها امتازت عن الجسمية الكثيفة، وعدمت شفافيتها ولطافتها التي كانت عليها حال صحتها يوم كانت سليمة.
لقد عالج الفلاسفة تلك الأدواء النفسية والأسقام الروحية بأنواع العلاجات منذ العصور الغابرة حتى اليوم، ووضع علماء النفس وأساتذة التربية أحكم القوانين وأتقن النظم والقواعد لإصلاحها فلم يفلحوا، إذ لم يجدوا لها علاجاً حاسماً، ولم يعثروا على دواء ناجع سوى الدين السماوي الذي هبط على الأنبياء والرسل ليرفع هذه الإنسانية من حضيض الرذائل والجهل الى مرتفع الفضائل والعرفان والذي جاء لإسعاد هذا الخلق كيما يعيشوا بسلام وهناء، ولينبلج في الأرض صبح الرشاد، فتزهو مخضرة الجوانب برياض النعيم ما دام الناس يعملون بقوانينه، ويتبعون سبل تعاليمه وإرشاداته.
فما من طبيب أدرى بأدواء النفوس من باريء النفوس، ولا حكيم أخبر بأسقام الأرواح كالدين المرسل من الحكيم، ولا عالم أعرف بطرق علاجها وأسباب شفائها كالشارع المقدس.
إذن فللدين أثره الفعال في تطبيبها، وإن له لمعاجز باهرة في إصلاحها تفوق معاجز الطب الفنية في مداواة الأجسام.
فما أشبه الدين بالسحر، لولا أن الدين خير كله والسحر شر كله، وما أشبه مبلغيه بالأطباء الذين عرفوا الداء والدواء فأرجعوا الأمزجة المنحرفة إلى صحتها وإعتدالها، لولا أن الأطباء قد يخطئون والأنبياء لا يخطئون.
لقد جاء الدين الإسلامي الحنيف بالأخلاق الفاضلة حفظاً لصحة النفوس البشرية، وأمر بالعمل عليها وقاية لأرواحهم من شرورها. كما أن النبوة الكبرى قد تكلفت بصلاح البشر وإصلاحه من ناحيتي الروح والجسد فكانت فيها حياته وسعادته وتقدمه ورقيه في عالمي الدنيا والآخرة.
قال تعالى: "إستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ليحييكم".
وقال جل جلاله: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة".
وقال تعالى: "قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور".
وقال تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".
هذا وقد بعث النبي الأمين (صلى الله عليه وآله) وهو ينادي: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. فعاش طيلة حياته (ص) الشريفة وهو يبذر تعاليمه الحكيمة ويغرس مكارم الأخلاق الإسلامية الفاضلة في نفوس الأمة، وينير لها الطريق إلى الحياة السعيدة روحاً وجسماً حتى رفعه الله (تعالى) إليه، فلم يهمل هذه الناس سدى بل خلف فيهم الثقلين: كتاب الله وعترته، فكان القرآن المجيد كتاب الله الصامت والعترة النبوية كتابه الناطق الذي يوضح للناس ما خفي عليهم من تعاليمه الإصلاحية، ويرشدهم بتوضيحه إلى مالم يدركه سواهم من الكنوز القرآنية الخفية، فكانوا هم الأدلاء على الخير والهدى والمرشدين إلى طريق الحياة الحقة، كما كانوا هم أطباء النفوس بكل ما تحتاج من العلاجات الروحية والمداواة النفسية، لذلك ترى كل إمام من أولئك العترة الطاهرة كان يعالج - بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - أدواء أهل عصره بنوع من العلاج الروحي يوافق عقولهم ويلائم مداركهم، كطبيب يوصي مرضاه بكل عطف وحنان ورأفة حتى يوصلهم إلى ساحل الصحة والهناء.
ولما كان عصر الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عصراً مليئاً بالأهواء المتعاكسة، والآراء المختلفة، والأخلاق المتفاوتة،والمذاهب المتشعبة، عصر تفسخت فيه الأخلاق، وتسممت فيه النفوس، وانحرفت صحة الأرواح. كان الإمام الصادق (عليه السلام) يرى نفسه بطبيعة الحال - بحسب وظيفته السماوية - هو الطبيب المسؤول عن صحة الأمة والمتكفل بعلاجها.
وكيف لا يرى نفسه كذلك وهو كتاب الله الناطق الذي قال النبي (ص) فيه وفي آبائه وفي القرآن: "إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً".
نعم كان (عليه السلام) يرى نفسه هو المسؤول الأول عن علاج هذه الأمة، ومداواة أمراضها الروحية التي انتابت نفوسها بطغيان الرذائل على الفضائل فكان (عليه السلام) يطببها بأنواع من أقواله الحكيمة ومختلف إرشاداته القيمة وتعاليمه الشافية، حسب مداركهم وشعورهم. شأن الفيلسوف المداري والطبيب المداوي.
وإليك نموذجاً من طبه الروحي ومعالجته النفسية التي أراد بها شفاء النفوس من أسقامها الفتاكة بالفرد والمجتمع، مكتفين بالقليل لعدم إتساع هذا الجزء لكل ما ورد عنه (عليه السلام) في هذا الباب:
الغضب
الغضب حالة في النفس تثيرها أمور متوقعة وغير متوقعة، فتخرج العقل عن استقامته، وتصد الغضوب عن رشده وصوابه، وتفقده سلطانه على فكره وإدراكه فيختل مزاج الذهن، وتتهيأ الأعضاء فيها للفتك والانتقام، ذلك لأن الدم يثور فيها فيسرع إلى القلب ثم ينتشر منه في العروق ويرتفع الى أعالي الرأس فيحمر الوجه وتنتفخ الودجان ثم يجيش في الصدر فيعبس الوجه وتنكمش الشفتان عن الأسنان وهناك تتأهب الأعضاء بسبب هذا الثوران في الدم للفتك والانتقام وقد قيل فيه:
ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم عدواً لعقل المرء أعدى من الغضب وأهم أسبابه الوراثة والأمراض. أما الأسباب المهيئة له فكثيرة، منها المزاج العصي والتسممات الحادثة من المآكل الحادة والمشروبات الروحية، كما أن للمحيط والبيئة والتربية الأثر البليغ في أحداث الغضب وشدة وطأته.
قال بعضهم: إن الأسباب المهيجة للغضب الزهو والعجب والمزاح والهزء والممارت والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي باجمعها أخلاق رديئة مذمومة. ولا خلاص منه مع بقاء هذه الأسباب إلا بازالتها إلى أضدادها.
وللغضب عواقب كثيرة من الأمراض التي لا يستهان بها كالاصابة بالسل الرئوي وسوء الهضم وإلتهاب الأعصاب والنزيف الدموية بأنواعه ، وقيل ان الغضوب قد يصاب بحالة شبيهة بداء الكلب بحيث إذا عض أحداً أدى إلى موته وهذا مما يدل على أن في ريق الغضبان سماً زعافاً لا يؤثر على صاحبه فقط بل يؤثر على من يقع عليه. فالغضب داء روحي ومرض خطير يضر بصاحبه أولاً وكثيراً ما يتعداه إلى غيره ويوقع صاحبه في ارتكاب الجرائم من غير وعي أو إدراك.
وكم عالج الحكماء والفلاسفة والأطباء والعلماء هذا الداء بأنواع العلاجات رجاء شفائه فلم يفلحوا، ولكن الإسلام قد عالجه بأخف العلاجات وأنجعها، وصده صداً بمختلف الواقيات كما في الحديث الشريف قوله (ص):
"إذا وجد أحدكم من ذلك (الغضب) سيئاً، فإن كان قائماً فليجلس أو جالساً فليقم، فان لم يزل بذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل، فإن النار لا يطفيها إلا الماء" (1).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): "الغضب مفتاح كل شر" (2).
وقال (عليه السلام): "الغضب ممحقة لقلب الحكيم" (3).
وقال (عليه السلام): "من لم يملك غضبه لم يملك عقله" (4).
وقال (عليه السلام): "إذا لم تكن حليماً فتحلم". وفي حديث آخر: "كفى بالحلم ناصراً" (5) .
وقال (عليه السلام): "من ظهر غضبه ظهر كيده، ومن قوي هواه ضعف حزمه" (6) .
نسألكم الدعاء
عبدالحسن الرکابي
موقع الإمــام الشيرازي