الحلقة الثانية من عشاق القران وهي كالاتي
ثانياً: الحفظ
الحفظ: وهو جوهر هذا الموضوع، و الحديث فيه عن الطريقة وعن الشروط اللازمة، و العوامل المساعدة، و نبدأ بالطريقة.
أولاً: الطريقة
هناك طرق عديدة للحفظ ولكننا نلقي الضوء على طريقتين اثنتين:
الطريقة الأولى
طريقة الصفحة: نعني بذلك أن يقرأ مريد الحفظ الصفحة كاملة من أولها إلى آخرها قراءة متأنية، صحيحة، ثلاث أو خمس مرات بحسب ذاكرة الإنسان وقدرته على الحفظ، فإذا قراها هذه المرات الثلاث أو الخمس قراءة فيها إستحضار قلب وتركيز الذهن و العقل و ليس مجرد قراءة لسان فقط ، إنما قد جمع قلبه وفكره لأنه يريد من هذه القراءة أن يحفظ.
فإذا أتم الثلاث أو الخمس أغلق مصحفه، و بدأ يقرأ عن ظهر قلب، و قد يرى بعضكم أن هذا لن يتم أو لن يستطيع حفظها بقراءة الثلاث أو الخمس، أقول نعم. سيكون قد حفظ من أولها و مضى ثم سيقف وقفة، فيفتح مصحفه و ينظر حيث وقف فيستعين، و يمضي مغلقا مصحفه، ثم سيقف ربما وقفة ثانية، أو ثالثة، ثم ليعد وهكذا.
ما الذي سيحصل ؟!
الموضع الذي وقف به أولاً لن يقف فيه ثانيةً، لأنه سيكون قد نقش في ذاكرته و حفر في عقله، فستقل الوقفات.
و غالباً من خلال التجربة سيسمع المرة الأولى ثم الثانية و في الغالب أنه في الثالثة يأتي بالصفحة محفوظة كاملة بعد أن يقوم بمجموع ما قرأه ثمان مرات، ثلاث أو خمس في القراءة الأولية المركزة، ثم يبدأ بالخطوة الثانية بتسميع هذه الصفحة و سيقف كما قلت بعض الوقفات في أول مرة و في المرة الثانية و في الغالب أنه في الثالثة لا يقف.
ماذا يصنع في الخطوة الثالثة، أن يكرر التسميع الصحيح الذي أتمه في المرة الأخيرة ثلاث مرات تقريباً.
فحينئذ يكون مجموع ما قرأ به هذه الصفحة في ذلك الوقت تسع مرات أو أحد عشر مرة.
إذن يقرأ الصفحة قراءة مركزة صحيحة ثلاث أو خمس مرات ، ثم يسمعها في ثلاث تجارب أو ثلاث محاولات.
ثم يضبطها في ثلاث تسميعات. و بذلك سوف تكون الصفحة محفوظة حفظاً جيداً متيناً مكيناً إن شاء الله.
الطريقة الثانية
طريقة الآيات أو الآية: ما هي هذه الطريقة؟ أن يختار عدداً من الآيات لا تقل عن خمس ولا تكثر عن عشر فيقرأها جميعاً قراءة صحيحة بتدبر، ثم يرجع إلى الآية الأولى فيقرأها مرتين، ويقرأ الآية الثانية مرتين أيضاً، ثم يرجع فيقرأهما معاً، ثم يقرأ الثالثة ثلاث مرات، ثم يرجع فيقرأ الأولى والثانية والثالثة معاً، ثم يقرأ الرابعة أربع مرات، ثم يقرأ الأولى والثانية والثالثة والرابعة معاً، ثم يقرأ الخامسة خمس مرات، ثم يرجع فيقرأ من الأولى إلى الخامسة معاً ثلاث مرات، ـ هذا إن كانت الآيات المختارة خمس ـ ، ثم يغلق مصحفه فيقرأ عن ظهر قلب ثلاث مرات ويستعين عند الوقفات، فبعد ذلك يجد نفسه قد حفظها إن شاء الله .
أنتقل إلى النقطة الثانية وهي نقطة مهمة مكملة و هي الشروط اللازمة.
ثانياً: الشروط اللازمة
لكي تكون هذه الطريقة صحيحة سواءً إخترت الطريقة الأولى أو الثانية لابد من هذه الشروط.
الشرط الأول: القراءة الصحيحة
من الأخطاء الكثيرة أن كثيراً ممن يعتزمون الحفظ أو يشرعون فيه يحفظون حفظاً خاطئاً.
فلابد قبل أن تحفظ أن يكون ما تحفظه صحيحاً، و هناك أمور كثيرة في هذا الباب منها على سبيل المثال لا الحصر؛
أولاً: تصحيح المخارج: إن كنت تنطق ثم "سم" أو الذين "الزين" فقوّم لسانك قبل أن تحفظ؛ لأنك إذا حفظت و أدمنت الحفظ بهذه الطريقة و واظبت ستكون جيداً في الحفظ لكنك مخطئاً فيه!
فلا بد أولاً من تصحيح المخارج وتصحيح الحروف لا بد منه.
ثانياً: ضبط الحركات: بعض الأخوة إما لضعف قراءته، أو لعجلته يخلط في الحركات، و هذا الخلط لا شك أنه خطأ و أنه قد يترتب عليه خلل في المعنى. و ذلك ليس من موضع حديثنا و لكن لا بد أن يتنبه المرء له و أن يحذر منه، و من ذلك أن اللغة العربية فيها تقديم و تأخير، وفيها إضمار و حذف وتقدير، وفيها إعرابات مختلفة، فأحياناً بعض الناس لا يتنبه، أحياناً مثلاً تقديم المفعول على الفاعل {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات}
بعضهم يحفظها إبراهيمُ أو ربَهُ بالنسبة له أحيانا قد لا تفرق، و ما حفظته خطئاً فثق تماماً أنه يثبت هذا الخطأ وبعد ذلك تصعب إزالته، يحتاج إلى عملية إستئصال، مثل الذي يبني بناء ثم يتبين له أن هذا البناء خطأ لابد له أن يكسر و أن يصحح البناء، لابد أن يزيل الخطأ ثم بعد ذلك يصحح من جديد. لماذا تكرر الجهد مرتين و تعيد العمل مرتين، إبدأ بداية صحيحة. و هناك أمثلة كثيرة في مسألة ضبط الحركات، فإن هناك كثيراً من الأمثلة التي تقع في هذا الجانب كما في الضمائر أيضاً.
الضمائر عندما يقع الخلط فيها أيضاً يقع خلط في الحفظ غير مقبول مطلقاً، كما يكون الضمير بالضم فيكون للمتكلم، أو يكون بالفتح للمخاطب كما في قوله تعالى:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}
التاء في الضميرين الأولين مضمومة و في الضميرين الثانيين مفتوحة فأي تغيير بالحركة يغير المعنى.
كما يقرأ البعض (و كنتُ أنت الرقيب عليهم ) ما يمكن أن تستقيم أبداً وهكذا الكثير من الكلمات و الحركات تحتاج إلى الضبط ابتداءً قبل أن يخطئ فيها.
كيف نحقق هذه القراءة الصحيحة؟
الأصل أيها الأخوة الأحبة أن القارئ و الحافظ لابد أن يقرأ على شيخ متقِن قبل الحفظ وبعده، تلقى القرآن تلقياً بالمشافهة، الأصل أن تكون متلقياً عن شيخ قد أتقن وتعلم فتكون قراءتك صحيحة فهو الذي يقرأ لك الصفحة أولاً ويصححها لك ثم تمضي بعد ذلك و تطبق الطريقة التي قلناها، هذا أول الشروط التي لا بد منها لتَكمُل لك طريقة الحفظ الصحيح.
الشرط الثاني: الحفظ المتين
الحفظ الجديد: لا بد أن يكون حفظاً متيناً، لا يقبل فيه خطأ ولا أقل من الخطأ و لا وقفة و لا تعتعة، الحفظ الجديد أعني: إذا أردت أن تحفظ صفحة جديدة إن لم يكن حفظك لها أقوى - مبالغة - من حفظك للفاتحة فلا تعد نفسك قد حفظتها
لماذا ؟ لأن الحفظ الجديد هو مثل الأساس، الآن إذا جئت بأساس البناء و تعجلت حيثما اتفق سوف ينهد البناء فوق رأسك يوماً ما.
و الحفظ الجديد إذا قبلت فيه بالخطأ و الخطأين، أو التعتعة أو الوقفة فإنك ثق تماماً أنك كالذي يبني الرجاء على شفير الهاوية، يعني كأنك متأرجح، فإذا كنت في البداية متأرجح كيف ستبني على ما بعده؟ كيف تريد أن تكون هذه الصفحة بعدها صفحات و صفحات؟
لا يمكن. لا ينبغي الترخص مطلقا في ضبط الحفظ الجديد ولو أخذت بدل عشر دقائق عشرين أو ثلاثين أو أربعين، المهم لا تنتقل من حفظك الأول حتى تتقنه اتقاناً كما قلت مبالغةً أكثر من إتقانك للفاتحة، لو قلت لأحدكم الآن سمع الفاتحة فسَمَّعها بكل سهولة ويسر، بل لو كان نائماً و حلم و قرأ الفاتحة لن يخطِأ فيها، لماذا؟ لأن الفاتحة قد أدمن قراءتها و حفظها أكثر من حفظه أسمه، لابد أن يكون الحفظ الأول مثل ذلك كما قلت دون أخطاء و دون عجلة.
الشرط الثالث: التسميع للغير
وهذا الذي سيكتشف لك الأخطاء التي ذكرتها، بعض الناس يسمع الصفحة الأولى للمرة الثالثة خرج مطمئناً منشرح الصدر مسروراً وهو قد حفظ و هناك بعض الأخطاء مما أشرت إليه، كيف يكتشفها؟ لا يكتشفها، يعيد مرة ثانية في اليوم التالي صفحته ويسمعها في خطئها و المصحف أمامه، لماذا ؟ لأنه تصور أنه حفظ حفظاً صحيحاً.
الذي يكتشف لك ذلك أن تُسمع الصفحة لغيرك مهما أنت بالغاً الحد بالذكاء و حدة الذهن و سرعة الحفظ، فلابد أن تُسمع لغيرك، أن تعطي المصحف غيرك ليستمع لك، وهذا أمر لا بد منه. لا بأس قد لا تجد من يسمع لك الصفحة إذا حفظتها أو الصفحتين أو الثلاث لا بأس، لكن لو جمعت خمساً من الصفحات أو عشراً من الصفحات سمعها لغيرك، هنا لازال هناك مجال للاستدراك، أما بعد أن تحفظ عشرة أجزاء تأتي و تسمع و عندك من الأخطاء ما الله به عليم هذا لا يمكن أن يكون مقبولاً.
الشرط الرابع: التكرار القريب
الحفظ بالحفظ: لو أنك صوبته وصححته، و لو أنك متنته و قويته و لو أنك سمعته و قرأته، لا يكفي فيه ذلك حتى تكرره في وقت قريب، ما معنى الوقت قريب، في يومك الذي حفظت به الصفحة لو حفظتها بعد الفجر، إذا تركتها إلى فجر اليوم التالي ستأتي إليها وقد أصابتها هينات واعتراها بعض الوقفات و دخلت فيها بعض المتشابهات مما قد حفظته قبلها من الآيات، لابد أن تكرره في الوقت نفسه.
في ذلك اليوم الصفحة الجديدة، بعد التسميع الذي ذكرته ثلاث مرات، على أقل تقدير أن تسمع الصفحة خمس مرات في ذلك اليوم، و سأذكر كيف يمكن تطبيق ذلك دون عناء و لا مشقة؛ لأن بعض الأخوة يقول هذا يريد أن نجلس في المسجد من بعد الفجر إلى المغرب حتى نطبق هذه الطرق التي يقولها. أذكر مثال أن الحفظ الذي تتركه و لا تكرره يسرع في التفلت
يحكى أن أحدهم كان يقرأ كتابا يريد أن يحفظه فكان يقرأه بصوت عالٍ ويكرره وعنده عجوز بالبيت وهو يكرر الكتاب الأولى والثانية و الثالثة والعاشرة، فملّت منه قالت: ما تصنع يا هذا؟ قال: إني أريد أن أحفظه، قالت: ويحك لو كنت تريد لقد فعلت فإني قد حفظته، فقال: هاتيه، فسمّعت له الكتاب من حفظها سماعا فحفظته، قال و لكني لا أحفظه حتى أكرره سبعين مرة.
يقول فجئتها بعد عام فقلت لها هاتي ما عندك من الكتاب فما أتت منه بشيء، أما أنا فما نسيت منه شيئاً.
لا تنظر للوقت القريب أنظر للمدى البعيد، أنت تريد أن تحفظ شيئاً لا تنساه بإذن الله عز وجل.
الشرط الخامس: الربط بما سبق
فالصفحة مثل الغرفة بالشقة ومثل الشقة في العمارة، يعني لا يمكن أن تكون هناك صفحة وحدها، لا بد أن تربطها بما قبلها و أن تربطها بما بعدها و سيأتي لنا حديث عن الربط لاحقاً.
إذن هذه هي الطريقة ثم هذه الشروط اللازمة .
الحلقة الثاثة تأتي باذن الله
خادمكم
هبة الله