الحلقة الرابعة
رابعاً: الروابط و الضوابط
القسم الرابع: الروابط و الضوابط: كيف نربط بين الآيات و السور؟
بعض الناس كثيراً ما يشكون من هذه المشكلة ، خاصة الذين لم يأخذوا بهذه الطرق و لم ينتظموا و يستمروا ، يقول أنا أحفظ و عندي قدرة أن أحفظ في الليلة الواحدة ما شاء الله لي أن أحفظ، لكن المسألة فيها متشابهات و هناك أمور تختلط و السور بعضها البعض
و يسأل عن هذا الأمر.
أقول: أولاً قبل أن ندخل في التفصيلات، الحفظ لا يتعلق بالروابط و الضوابط و حفظ المتشابهات و غيرها.
الحفظ يعتمد على ما ذكرت من حسن الطريقة الصحيحة و من دوام المراجعة المكثفة، لأنه ما المقصود بالحفظ؟
الحفظ أصلاً هو عملية ذهنية يمكن فصلها نظرياً عن أي شيء آخر، يمكن فصلها عن الفهم، فأنت تستطيع أن تحفظ مالا تفهم، و يمكن فصلها نظرياً عن العمل فأنت تستطيع أن تحفظ مالا تعمل به، وهو عملية ذهنية آلية.
مما يذكر في ترجمة أبي العلاء المعري الشاعر، أنه كان وقّاد الذهن سريع الحفظ، حتى إنه كان يحفظ أي شيء يسمعه، فقيل إنه إختلف روميان بينهما وتصايحا في أمر من الحقوق، فاختلفا إلى من يحكم بينهما، فقال لهما هذا الذي يحكم هل شهد أحد غيركما حواركما وخصامكما، قالوا لا لكن كان إلى جوارنا رجل أعمى - وهو أبو العلاء، الذي يسمى رهين المحبسين - فجيء به، قال إني لما لا أعرف رطنهما لكن الأول قال كذا و كذا و الثاني قال كذا و كذا، مثلاً كأنهم اثنين يتكلمان باللغة الإنجليزية وهذا حفظ ما قال هذا و ما قال هذا، أما ما هذا الذي قاله ما معناه لا يدري، هو يحفظ.
إذن فلا تتعلم في الحفظ أنك تريد أن تنظر إلى الضوابط و المتشابهات، ويأخذ بعض الأخوة الكتب ما الفرق بين هذه الآية؟
هذا نعم لا بأس لكن ليس هو الأساس، الأساس أن تحفظ ، الحفظ الذي هو التسميع الذي هو التكرار الذي هو إدمان القراءة و التلاوة و التسميع و المراجعة هذا الذي يتحقق به الفرد، هذه أمور أخرى لاحقة و تابعة و من باب النافلة و الزيادة ليست هي أصلاً في هذا و لكنها في الوقت نفسه معينة ومفيدة و مكملة ومتممة فلا تعتمد عليها و لكن استأنس بها.
وهذه متفرقات حقيقة حول الروابط و الضوابط، هناك متشابهات، الله عز وجل يقول { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا }
أي في بعض معاني التفسير أنه يشبه بعضه بعضا، و نحن نعلم أن هناك آيات مكررة وآيات متشابهة لا يختلف بعضها عن بعض في حرف واحد وهذا من إعجاز القرآن وسَعة و دِقة معانيه وفيه كلام طويل عند أهل العلم، لكن لنأخذ بعض الملامح في مسائل المتشابهات لعلها أن تعين، إضافة أريد أن أشير إلى أن هذه الروابط و الضوابط تعتمد على كل أحد في نفسه، فأنت قد تجعل لنفسك ضابطاً ليس لي، فأنا قد أكون قد ضبطت هذه الصفحة أو هذه السورة في تصور معين وأنت ضبطتها في تصور آخر، أي في ضبط المعنى، أما الحفظ فكله واحد.
من ذلك على سبيل المثال:
أولاً: المنفردات و الوحدات
هناك آيات متشابهة لكن واحدة منها كانت بصيغة معينة، تعرّف عليها حتى تعرف أن ما سواها متطابق وهى الوحيدة التي انفردت بذلك، كما في قوله عز وجل { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } هذه في البقرة 173
لوحدها مع التقديم به لغير الله وفي باقي القرآن إما في المائدة 3 وفي الأنعام 145 و في النحل 115 {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
فقط في البقرة {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه}.
هذه لا تقل لي ستجعلني أحفظ. لا، هي بعد أن تحفظ خذ هذه العلامة فإذا جئت و أنت تقرأ في البقرة القاعدة في ذهنك فإذا وصلت لها قدمت به و مضيت وأنت مطمئن، لا متشككا هل هذه كذا أو كذا.
من المنفردات أيضا، الآيات التي في (بنو إسرائيل) {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} البقرة 61
إلى آخره قوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ}
تجد النبيين في أكثرهم و تجدها الأنبياء في آل عمران 112
{وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ} وحدها، وهكذا تجد المنفردات يمكن أن تميزها حتى تضبط أو تتم الحفظ و تتقنه بعد حفظك له إن شاء الله.
هناك أيضا مواطن متشابهات كثيرة بعد أن تحفظ لك أن تصنع الروابط و الضوابط بنفسك، خذ الآيات التي فيها متشابهات و ضعها أمام عينيك واجعل لها رابطاً بحسب ما ترى.
أمر إبليس بالسجود {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} البقرة 34
{إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} الأعراف 11 ، ضعها أمامك و ميز بينها بأي تمييز تراه يفيدك و يثبت في ذهنك وليس هناك من شرط في هذا. إذن الأمر واسع.
ثانياً: مسألة المتشابهات و ضبطها في الكتب
و لنأخذ أمثلة مما قد تضبطه بنفسك و تضع له قاعدة وحدك دون غيرك، فالمسألة واسعة.
مثلاً في آل عمران في الآية 176 و 177، و 178
فيها {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} إجمعها في كلمة عام، العين عظيم، و الألف أليم ، و الميم مهين، تنضبط معك، فإذا جئت إلى هذه الصفحة انطلقت و أنت مطمئن لا خوف عليك أن تخلط بين هذه و تلك.
مثال أيضاً آخر، في المائدة، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }62
بعده مباشرة {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 63 بعدها في الصفحة التي بعدها {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 79 ، إجمعها في كلمة عصف، الأولى عين يعملون و الثانية صاد يصنعون و الثالثة فاء يفعلون، أيضاً تنضبط معك و تبقى في ذهنك ولا إشكال فيها بإذن الله عز وجل.
ومثلاً {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} الصافات 98 و {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} الأنبياء 70 ميز بينها الصافات فيها الفاء ، نفس كلمة الصافات فيها حرف الفاء فاجعل فيها "فأرادوا" ، و أيضاً فيها فاء في "الأسفلين" فإذن الفاء في الصافات في هذا المعنى، و تبقى الأنبياء بالواو و بالأخسرين بدل الأسفلين.
وهكذا قِس على هذا أموراً كثيراً تستطيع أن تجعلها على هذا النسق ، ومثله أيضاً {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الإسراء 89 و قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الكهف54. الأولى في الإسراء فيها حرف السين فقدم ما فيه السين " الناس" و قل {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ} ، و الثانية في الكهف فيها فاء فقدم ما فيه الفاء و قل {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ}.
وهكذا ضوابط معينه ممكن أن تستفيد منها، أيضاً تقديم اللهو و اللعب
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} الأعراف 51
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} العنكبوت 64
هناك أيضا مثل " الرجفة مع الدار " و " الصيحة مع الديار" قاعدة عامة ( فأخذتهم الرجفة ) سيكون الكلام في دارهم، ( فأخذتهم الصيحة ) سيكون الكلام في ديارهم. وهكذا ستجد أنواعاً كثيرة في هذا الجانب.
ثالثاً: فهم المعاني و تأملها
مما يساعد على الربط و الضبط أيضاً، كيف أيها الأخوة الأحبة، مثلاً موضوع السورة، خاصة السور غير السور الطوال، موضوعها قد يساعدك على أن تتصور التدرج في هذا الموضوع.
بدأ الله عز و جل مثلا في سورة الرعد في الآيات التي في السماوات من عظيم خلقه ثم الآيات التي فيها الأرض ثم بعد ذلك انتقل إلى موقف الكفار من هذه الآيات و أنهم كفروا بالله عز و جل ثم انتقل إلى إقرار آخر في علم الله عز وجل، يعني يمكن إذا قرأت ما يعرف بمقاصد السور أن تتصور هذه السورة بمقاطعها و أجزائها فتعينك على تصور تسلسلها.
بعض السور أيضا يعينك أنها القصص الطويلة، القصص الطويلة مثل قصة يوسف ، سورة كاملة إذا عرفت القصة و تسلسلها طبعاً لن تقفز من حدث إلى حدث و تأتي بآيات قبل الحدث الأول، إذا كنت تعرف القصة وعرفت مضامينها.
و قلت القصص الطويلة مثل قصة يوسف و قصة موسى في بعض المواقع يمكن تصور القصة أن يعين على الربط بين آياتها ويعين ذلك أيضاً في مثل السور التي فيها قصص لعدد أو لكثير من الرسل و الأنبياء مثل قصة هود و قصة الأعراف و الأنبياء، حاول أن تعرف أو أن تكتب قصص الأنبياء مرتبة، نذكر مثلاً في الأعراف قصة نوح ثم عاد ثم صالح ثم إلى آخره.
فاعرفها حتى إذا إنتهيت من قصة النبي الأول وأنت تقرأ عرفت أن بعده النبي الثاني فتبدأ بوقفة تحتاج إلى دفعة، فاجعل دفعتك ذاتية دون أن تحتاج إلى من يدفعك أو من يلقنك.
أيضاً الأجزاء و الأرباع أيها الأخوة و السور، مبدأ السورة، مطلع الجزء، بداية الحزب أو الربع، مهم جداً و يوفيه.
فأنت تجعل لكل ربع مضمونه، مثلاً أن تقول الربع الأول في البقرة طبعاً سيكون محفوظ، فيه قصة آدم و الملائكة، الربع الثاني قصة بني إسرائيل و فرعون، الربع الثالث قصة البقرة، تجعل لكل ربع مثلا تصوراً معيناً أو مضموناً معيناً تجعله حاضراً في ذهنك هذا الربط بالمعنى و فيه صعوبة لكنه في الغالب مع الممارسة يتولد عندك شيء من هذا الربط.
رابعا: الربط العام
الضبط المقصود، الرابع و الأخير الربط العام، أن نربط الآيات بطريقة الحفظ التي ذكرناها، و نربط السور و الأجزاء و نعرف ترتيب السور وترتيب الأجزاء و مطالعها هذا يتم كذلك بالطريقة التي أشرنا إليها في الحفظ و في المراجعة.
الحلقة الخامسة تأتي إن شاء الله
هبة الله