اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في تأريخنا السياسي الإسلامي المشرق، كثير من الوقفات التي قد يُصعب إحصاؤها أو التوقّف عندها جميعاً، لكننا نستطيع أن نستخلص منها بين الحين والآخر، ما يدعم تجاربنا السياسية الحديثة في مجالات عديدة ومتنوّعة، فليس المقصود أن نتبجّح بهذا الموقف أو ذاك أمام الملأ الإنساني عامة، ولكننا نهدف بالدرجة الأولى إلى تذكير سياسيينا في العالم الإسلامي بمواقف ومآثر الرعيل الأول من قادتنا العظام، لعلهم ولعلنا جميعاً نعتبر من تلك المواقف التي حفرت لنفسها علامات مضيئة في جبين التأريخ البشري قبل الإسلامي.
وربما يكون من البديهيات أن نؤكد بكلمتنا هذه أهمية أن يتعامل القائد السياسي بالحسنى مع شعبه، لكن المهم في هذا الجانب أن لا يكون هذا التعامل شكلياً أو إعلامياً (كما يحدث من بعض القادة في بعض الدول العربية والإسلامية) بل ينبغي أن يستند إلى صدقيه تامة متأتية من طبيعة شخصية القائد ومبادئه وسلوكه الحقيقي الذي يستند إلى جوهره ولا يكون متصنّعاً لأجل الدعاية أو ما شابه.
وفي كل الأحوال فإن القائد الذي يتعامل مع شعبه بما يليق بالكرامة الإنسانية سيكون هو الرابح الأول من سلوكه هذا، من خلال توثيق العلاقة المتبادلة بينهما ناهيك عن الرضا الشخصي عن الذات وراحة الضمير وكسب الرضا الرباني في نهاية المطاف.
ولنا في نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله النموذج السياسي الأمثل في طرق التعامل مع الناس، حيث يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله بهذا الصدد في كتابه الثمين الموسوم بـ«السياسة من واقع الإسلام»:
(وقد ضرب النبي صلی الله عليه وآله الرقم الأول في التاريخ كلّه في الرحمة بما لا مثيل لها في تاريخ أي عظيم وقائد).
وكيف لا وهو الذي فضل الرعية على ذاته وعاملها بحنو إنساني لا يُضاهى، وهنا لابد أن نورد قصة كاملة ذكرها سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه كدرس بليغ للسياسيين المعاصرين في كيفية التعامل مع المواطن الفرد، إذ يقول سماحته:
(وفد أعرابي على رسول الله صلی الله عليه وآله يطلب منه شيئاً، فأعطاه النبي صلی الله عليه وآله وقال له: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت).
وذلك في مجلس النبي صلی الله عليه وآله وبمحضر من أصحابه المهاجرين والأنصار، فغضب المسلمون، وشقّ عليهم تحمّل هذه القسوة من الأعرابي، فقام إليه بعض الصحابة ليوبّخه ويؤنّبه. فأشار النبي صلی الله عليه وآله إليهم: أن كفّوا.
ثم قام صلی الله عليه وآله ودخل منزله وأرسل إليه وزاده، ثم قال صلی الله عليه وآله لـه: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فودّع الأعرابي وخرج.
ثم توجه النبي صلی الله عليه وآله إلى أصحابه قائلاً: (مثلي ومثل هذا، مثل رجل لـه ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس، فلم يزدها إلاّ نفوراً، فناداهم صاحبها: خلوا بينـي وبين ناقتـي فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجّه إليها ووقف بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردّها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها واستوى عليها. وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار)(1). يا لها من رحمة عظيمة، لا تجد نظيراً لها في غير تاريخ الرسالة أو الولاية.
إن هذا النموذج من التعامل الذي حدث في ظروف تختلف عن ظروف العصر الراهن وفي مجتمع كان لا يزال في أوائل خروجه من الجهالة إلى نور العلم، هذا النموذج يُعدّ قفزة عظمى في التعامل الإنساني للقائد السياسي مع مواطنه، ولم يكن الدافع دينياً محضاً، بل ثمة رؤية سياسية عظيمة تخالطت مع الرؤية الإنسانية والمبادئ الإسلامية لتخلُص إلى هذا النوع الراقي من التعامل المعافى مع المحكوم من لدن الحاكم.
ولو تساءلنا هل ثمة وجود في عالمنا اليوم لمثل هذا النموذج الكبير في المنظور الإنساني عامة؟ فإن الجواب سيأتي صارخاً وراكزاً بالنفي الذي يؤكد بأن ساستنا ذهبوا بعيداً في قطيعتهم مع تجارب قادة الإسلام العظام.
لذا مطلوب أن يعود القادة إلى أنفسهم أولاً ومن ثم إلى مثل هذه الحلقات التأريخية المتوهّجة بنور الوعي الذي سيفتح الطريق واسعاً أمامهم للدخول في السبل والفضاءات السليمة من التعامل الصحيح مع الناس عموماً، بل كان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله رؤوفاً حتى مع الحيوان وطالما وجّه الجميع بالرفق به، فكيف إذا تعلّق الأمر بالإنسان، مع ملاحظة غياب التكافؤ بين الحاكم والمحكوم، بمعنى ينبغي من الطرف الأقوى أن يراعي ضعف الطرف الثاني في التعامل، وهكذا يجب أن تكون رحمته مضاعفة عمّا لو كان العلاقة تدور بين طرف يضاهيه بالقوة والمال والنفوذ وما شابه.
ومن محاسن إطلالة القائد السياسي على النموذج المشرق أن رحمة النبي صلى الله عليه وآله ومعاملة الناس بالحسنى وصلت إلى حدّ عدم إجهادهم حتى بالموعظة، فكان صلى الله عليه وآله لا يُثقل بالموعظة على من يستمع إليه من المواطنين، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال:
(وذكروا: أنّه صلی الله عليه وآله كان يقصر من مواعظه خشية السآمة على أصحابه، فلا يكثر عليهم المواعظ، وإذا وعظ لم يطل فيها، بل يقلل، وفي القليل يقصر)(2).
هكذا ينبغي على ساسة اليوم في العالم الإسلامي أن يدخلوا في رحاب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأن ينهلوا من قيادته الخالدة أروع العبر وأرسخ المواقف وأعظم الدروس.
---------------------------------
* مع قليل من التصرّف والتعديل من قبل المشرف على موقع مؤسسة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الثقافية.
(1) راجع الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض: ج1 ص124.
(2) راجع مكارم الأخلاق للطبرسي: ص24 ب1 ف2 في جمل من أحواله وأخلاقه صلی الله عليه وآله.
من فكر المرجع الشيرازي
شبكة النبأ