ابتداء البعثة :
فلمّا كان في الأربعين من عمره وقد خلا إلى نفسه في غارٍ بجبل (حراء) قرب مكّة ، شهر رمضان ، ليفكر في تلك المسائل الكبرى ، إذا هو قد خرج إلى خديجة ذات يوم وكان قد استصحبها ذلك العام وأنزلها قريباً من مكان خلوته ، فقال لها : إنّه بفضل الله قد استجلى غامض السر ، واستثار كامن الأمر ، وأنّه قد أنارت الشبهة ، وانجلى الشك وبرح الخفاء وأن جميع هذه الأصنام محال وليست إلاّ أخشاباً حقيرة ، وأنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فهو الحقّ وكل ما خلاه باطل ، خلقنا ويرزقنا . وما نحن وسائل الخلق والكائنات إلاّ ظل له وستار يحجب النور الأبدي والرونق السرمدي ، الله أكبر ، ولله الحمد .
الوحي وجبريل : فمن فضائل الإسلام : تضحية النفس في سبيل الله ، وهذا أشرف ما نزل من السماء على بني الأرض ، نعم هو نور الله قد سطع في روح ذلك الرجل ، فأنار ظلماتها ، هو ضياء باهر ، كشف تلك الظلمات التي كانت تؤذن بالخسران والهلاك ، وقد سماه محمّد (ع) وحياً و( جبريل ) ، وأيّنا يستطيع أن يُحدث له اسماً ؟! ألم يجيء في الإنجيل أنّ وحي الله يهبنا الفهم والإدراك ؟ ولا شكّ أنّ العلم والنفاذ إلى صميم الأمور وجواهر الأشياء لسرّ من أغمض الأسرار ، لا يكاد المنطقيون يلمسون منه إلا قشوره ، وقد قال نوفاليس : ( أليس الإيمان هو المعجزة الحقّة الدالة على الله ؟! ) فشعور محمّد إذ اشتعلت روحه بلهيب هذه الحقيقة الساطعة ، بأنّ الحقيقة المذكورة هي أهم ما يجب على الناس علمه لم يكُ إلاّ أمراً بديهياً .
معنى كلمة محمّد رسول الله : وكون الله قد أنعم عليه بكشفها له ، ونجّاه من الهلاك والظلمة وكونه قد أصبح مضطراً إلى إظهارها للعالم أجمع ـ هذا كله هو معنى كلمة (محمّد رسول الله) وهذا هو الصدق الجلي والحق المبين .
الرد على القائلين بأنّ الإسلام انتشر بالسيف :
وكانت نية محمّد حتى الآن أن ينشر دينه بالحكمة ، والموعظة الحسنة فقط ، فلمّا وجد أنّ القوم الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته السماوية ، وعدم الإصغاء إلى صوت ضميره وصيحة لبّه ، حتى أرادوا أن يسكتوه فلا ينطق بالرسالة ـ عزم ابن الصحراء على أن يدافع عن نفسه ، دفاع رجل ، ثمّ دفاع عربي ، ولسان حاله يقول : أمَا وقد أبت قريش إلا الحرب، فلينظروا أيّ فتيان هيجاء نحن ؟!
وحقاً رأى ! فإنّ أولئك القوم أغلقوا آذانهم عن كلمة الحقّ ، وشريعة الصدق ، وأبوا إلاّ تمادياً في ضلالهم يستبيحون الحريم ، ويهتكون الحرمات ، ويسلبون وينهبون ، ويقتلون النفس التي حرّم الله قتلها ، ويأتون كل إثم ومنكر، وقد جاءهم محمّد من طريق الرفق والأناة ، فأبوا إلاّ عتواً وطغياناً، فليجعل الأمر إذن إلى الحسام المهنّد ، والوشيج المقوّم ، وإلى كل مسرودة حصداء ، وسابحة جرداء ، وكذلك قضى محمّد بقية عمره ـ وهي عشر سنين أخرى ـ في حرب وجهاد ، لم يسترح غمضة عين ، وكانت النتيجة ما تعلمون ؟
ولقد قيل كثيراً في شأن نشر محمّد دينه بالسيف ، فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه فاشدّ ما أخطأوا وجاروا، فهم يقولون : ما كان الدين لينتشر لولا السيف ، ولكن ما هو الذي أوجد السيف ؟ هو قوة ذلك الدين وأنّه حق ، والرأي الجديد أوّل ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد ، فالذي يعتقده هو فرد ، فردٌ ضد العالم أجمع ، فإذا تناول هذا الفرد سيفاً وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع ، وأرى على العموم أنّ لحق ينشر نفسه بأية طريقة ، حسبما تقتضيه الحال ، أو لم تروا أنّ النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحياناً .. ؟! وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون ، وأنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف ، أم باللسان أو بأية آلة أخرى .
القرآن وإعجازه :
أمّا القرآن ، فإنّ فرط إعجاب المسلمين به وقولهم بإعجازه هو أكبر دليل على اختلاف الأذواق في الأمم المختلفة ، هذا وإنّ الترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة ، وسحن الصياغة ، ولذلك لا عجب إذا قلت : إنّ الأوروبي يجد في قراءة القرآن أكبر عناء ، فهو يقرؤه كما يقرأ الجرائد ، لا يزال يقطع في صفحاتها قفاراً من القول المملّ المتعب ، ويحمل على ذهنه هضاباً وجبالاً من الكم ، لكي يعثر في خلال ذلك على كلمة مفيدة ، أمّا العرب فيرونه على عكس ذلك لما بين آياته وبين أذواقهم من الملاءمة ، ولأنّ لا ترجمة ذهبت بحسنه ورونقه ، فلذلك رآه العرب من المعجزات وأعطوه من التبجيل ما لم يعطه أتقى النصارى لإنجيلهم .
وما برح في كل زمان ومكان قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها ، والوحي المنزّل من السماء هدى للناس وسراجاً منيراً ، يضيء لهم سبل العيش ويهديهم صراطاً مستقيماً ، ومصدر أحكام القضاة ، والدرس الواجب على كل مسلم حفظه ، والاستنارة به في غياهب الحياة ، وفي بلاد المسلمين مساجد يتلى فيها القرآن جميعه كل يوم مرّة ، يتقاسمه ثلاثون قارئاً على التوالي ، وكذلك ما برح هذا الكتاب يرن صوته في آذان الألوف ـ من خلق الله وفي قلوبهم ـ اثني عشر قرناً في كل آن ولحظة ، ويقال إنّ من الفقهاء من قرأه سبعين ألف مرة !!
براءة محمّد من الشهوات وتواضعه وتقشّفه :
وما كان محمّد أخا شهوات ، برغم ما اتُّهم به ظلماً وعدواناً ، وشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً ، لا همّ له إلا قضاء مآربه من الملاذ . كلا ، فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أية كانت ، لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ، ومأكله ، ومشربه ، وملبسه ، وسائر أموره وأحواله ، وكان طعامه عادة الخبز والماء ، وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار وإنّهم ليذكرون ـ ونعم ما يذكرون ـ أنه كان يصلح ويرفو ثوبه بيده ، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة ؟!
فحبّذا محمّد من رجل خشن اللباس ، خشن الطعام ، مجتهد في الله قائم النهار ، ساهر الليل دائباً في نشر دين الله ، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان . غير متطلعٍ إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت ، رجل عظيم وربّكم ! وإلاّ فما كان ملاقياً من أولئك العرب الغلاظ توقيراً واحتراماً وإكباراً وإعظاماً ، وما كان يمكنه أن يقودهم ويعاشرهم معظم أوقاته ، ثلاثاً وعشرين حجّة وهم ملتفّون به يقاتلون بين يديه ويجاهدون حوله . لقد كان في هؤلاء العرب جفاءً ، وغلظة ، وبادرة ، وعجرفية ، وكانوا حماة الأنوف ، أباة الضيم ، وُعر المقَادة ، صعاب الشكيمة ، فمن قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا ؟! فذلكم وايم الله بطل كبير ، ولولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والفضل ، لما خضعوا له ولا أذعنوا ، وكيف وقد كانوا أطوع له من بنانه .
وظنّي أنه لو كان أتيح لهم بدل محمّد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيباً من طاعتهم مقدار ما ناله محمّد في ثوبه المرقع بيده ، فكذلك تكون العظمة ، وهكذا تكون الأبطال .
تأثير الإسلام على العرب وفضله عليهم :
ولقد أخرج الله العربَ بالإسلام من الظلمات إلى النور , وأحيى به من العرب أمّة هامدة وأرضاها مدّة ، وهل كانت إلاّ فئة من جوالة الأعراب ، خاملة فقيرة تجوب الفلاة ، منذ بدء العالم ، لا يسمع لها صوت ولا تحسّ منها حركة ، فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من لدنه ورسالة من قبله ، فإذا الخمول قد استحال شهرة ، والغموض نبهه ، والضعة رفعة ، والضعف قوة ، والشرارة حريقاً ، وسع نوره الأنحاء وعمّ ضوء الأرجاء ، وعقد شعاعه الشمال بالجنوب ، والمشرق بالمغرب ، وما هو إلاّ قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رجل في الهند ورجل في الأندلس وأشرقت دولة الإسلام حقباً عديدة ودهور مديدة بنور الفضل والنبل ، والمروءة والبأس ، والنجدة ، ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة .
وكذلك الإيمان عظيم وهو مبعث الحياة ، ومنبع القوّة ، وما زال للأمّة رقي في درج الفضل ، وتعريج إلى ذرى المجد ، ما دام مذهبها اليقين ومنهاجها الإيمان ، ألستم ترون في حالة أولئك الأعراب ومحمّدهم وعصرهم ، كأنّما قد وقعت من السماء شرارة على تلك الرمال ، التي كان لا يبصر بها فضل ، ولا يرجى فيها خير ؟! فإذا هي بارود سريع الانفجار وما هي برمل ميت ، وإذا هي قد تأججت واشتعلت ، واتصلت نيرانها بين غرناطة ودلهي .
ولطالما قلت : إنّ الرجل العظيم كالشهاب من السماء ، وسائر الناس في انتظاره كالحطب ، فما هو إلاّ أن يسقط حتى يتأججوا ويلتهبوا !
ــــــــــــــــــــــــ
* اقتباس قسم المقالات في شبكة الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي. المصدر : مجلة الموقف / العدد18 / 1984 م .
للفيلسوف الانكليزي توماس كارليل كتيب يحمل اسم : محمّد (ص) المثل الأعلى . يرد فيه على تهجّمات بعض الغربيين على الإسلام ونبيّه ، والذين طالما ألصقوا التهم الباطلة برسول الله وبالدين الحنيف .
أهميّة ما كتبه توماس كارليل منذ عام 1352 هجرية / 1934 ميلادية ، تكمن في تجرّده وموضوعيته الواضحة في مؤلَّفه وفي دراسته لسيرة الرسول ، وللفترة المرافقة لنزول الوحي وبدء الدعوة الإسلامية .