اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الآيات
عَلَى سُرُر مَّوْضُونَة ( 15 ) مُّتَكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَـبِلِينَ ( 16 ) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ ( 17 ) بِأَكْوَاب وَأَبَارِيقَ وَكَأْس مِّن مَّعِين( 18 ) لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ( 19 ) وَفَـكِهَة مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ( 20 ) وَلَحْمِ طَيْر مِّمَّا يَشْتَهُونَ ( 21 ) وَحُورٌ عِينٌ ( 22 )كَأَمْثَـلِ اللَّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( 23 ) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 24 ) لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( 25 ) إلاَّ قِيلا سَلَـماً سَلَـماً ( 26 )
التّفسير
الجنّة بإنتظار المقرّبين:
هذه الآيات تتحدّث عن أنواع نعم الجنّة التي أعدّها الله سبحانه للقسم الثالث من عباده المقرّبين، والتي كلّ واحدة منها أعظم من اُختها وأكرم ..
وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام:
يقول تعالى في البداية: (على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين).
«سرر» جمع سرير من مادّة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه
(موضون) من مادّة (وضن) على وزن (وزن) وهي في الأصل بمعنى نسج الدرع، ثمّ اُطلقت على كلّ منسوج محكم الخيوط والنسيج. والمقصود هنا هي الأسرة الموضوعة جنباً إلى جنب بصورة متراصّة. أو أنّ لهذه الأسرة حياكة مخصوصة من اللؤلؤ والياقوت وما إلى ذلك، كما قال بعض المفسّرين.
وعلى كلّ حال، فإنّ بناء هذه الأسرة وكيفية وضعها، ومجلس الاُنس الذي يتشكّل عليها، وأجواء السرور والفرح التي تغمرها، لا نستطيع وصفه بأي بيان.
ونلاحظ إستمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنّة، ومجالس أهلها، ومنتديات أحبّتها ممّا يدلّ على أنّ من أهم نعم وملذّات هؤلاء هي جلسات الاُنس هذه ..
أمّا أحاديثهم وما يدور في حفلاتهم فليس هنالك أحد يعلم حقيقتها، فهل هي عن أسرار الخلق وعجائب الكون؟ أو عن اُصول المعرفة وأسماء الله وصفاته الحسنى؟ أو عن الحوادث التي حدثت في هذا العالم؟ أو عن الراحة التي هم عليها بعد التعب والعناء؟ أو عن اُمور اُخرى لا نستطيع إدراكها ...؟ هذا هو سرّ لا يعلمه إلاّ الله.
ثمّ يتحدث سبحانه عن نعمة اُخرى لهم حيث يقول: (يطوف عليهم ولدان مخلّدون).
التعبير بـ «يطوف» من مادّة (طواف) إشارة إلى إستمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.
والتعبير بـ «مخلّدون» إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم، والأصل أنّ جميع أهل الجنّة مخلّدون وباقون.
أمّا من هم هؤلاء الولدان؟
قال البعض: إنّهم أبناء البشر من هذه الدنيا الذين توفّوا قبل البلوغ، وصحيفة أعمالهم بيضاء لم تدنّس بعد، فقد بلغوا هذه المرتبة بلطف الله سبحانه، وخدمتهم للمقرّبين تقترن بإرتياح عظيم ورغبة عميقة ولذّة من أفضل اللذّات، لأنّهم في خدمة المقرّبين من الحضرة الإلهيّة.
وقد ورد في هذا المعنى حديث للإمام علي (عليه السلام).
إلاّ أنّنا نقرأ في تفسير آخر أنّهم أطفال المشركين ولأنّهم لم يرتكبوا ذنباً فقد حصلوا على هذه المرتبة; وأطفال المؤمنين يلتحقون بآبائهم واُمّهاتهم.
ونقرأ في تفسير ثالث أنّهم خدّام الجنّة، حيث إنّ الله سبحانه قد أعدّهم لهذه المهمّة بشكل خاصّ.
ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنّة أقداح الخمر وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنّة (بأكواب وأباريق وكأس من معين)(1)وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر، حيث يقول تعالى: (لا يصدّعون عنها ولا ينزفون)(2).
إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف، إذ تغمر كلّ وجودهم بلذّة ليس لها مثيل.
ثمّ يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها الله للمقرّبين في الجنّة، حيث يقول سبحانه: (وفاكهة ممّا يتخيّرون)(1) (ولحم طير ممّا يشتهون).
إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصّة عند أكلها قبل الطعام.
والذي يستفاد من بعض الرّوايات أنّ غصون أشجار الجنّة تكون في متناول أيدي أهل الجنّة، بحيث يستطيعون بكلّ سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنّة. إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلّدين) له صفاء خاصّ ولطف متميّز حيث أنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الإحترام والإكرام لأهل الجنّة، وتضفي رونقاً وبهاءً أكثر على مجالس أُنسهم. ومن المتعارف عليه إجتماعياً بيننا أنّ تقديم الفاكهة وتقريبها من الضيوف من قبل المضيف نفسه يعبّر عن التقدير والمحبّة والإحترام.
وخصّت لحوم الطيور بالذكر هنا لفضلها على بقيّة أنواع اللحوم، لذا فقد تكرّر ذكرها.
إنّ إستعمال تعبير «يتخيّرون» بالنسبة لـ (الفاكهة) ويشتهون بالنسبة لـ (اللحوم) لا يدلّل على وجود إختلاف بين التعبيرين كما ذهب إليه بعض المفسّرين، بل هما بمعنى واحد بعبارتين مختلفتين، والمقصود بهما أنّ أي غذاء يشتهيه أهل الجنّة يوضع بإختيارهم من قبل (الولدان المخلّدين).
ثمّ يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات حيث يقول سبحانه: (حور عين)(2) (كأمثال اللؤلؤ المكنون).
«حور» كما قلنا سابقاً جمع حوراء و أحور، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديداً وبياضها شفافاً، و (عين) جمع (عيناء) و أعين، بمعنى العين الواسعة، لأنّ أكثر جمال الإنسان في عيونه، فقد ذكر هذا الوصف خصوصاً.
وقال البعض: إنّ «حور» أُخذت من مادّة (حيرة) يعني أنّهنّ جميلات إلى حدّ تصاب العيون بالحيرة عند رؤيتهنّ(1).
«مكنون» بمعنى مستور، والمقصود هنا الإستتار في الصدف، لأنّ اللؤلؤ عندما يكون مختفياً في الصدف وبعيداً عن لمس الأيدي يكون شفّافاً وناصعاً أكثر من أي وقت. وبالإضافة إلى ذلك قد يكون المقصود أنهنّ مستورات عن أعين الآخرين بصورة تامّة، لا يد تصل إليهنّ ولا عين تقع عليهنّ.
وبعد الحديث عن هذه المنح، والعطايا المادية الستّة، يضيف سبحانه: (جزاءً بما كانوا يعملون) كي لا يتصوّر أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافاً، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها، حيث يلزم للإنسان العمل المستمرّ الخالص حتّى تكون هذه الألطاف الإلهيّة من نصيبه.
«ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الإستمرار».
ويتحدّث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنّة، وهي التي تتسّم بالطابع الروحي المعنوي حيث يقول تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً).
فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس، فلا كذب، ولا تهم، ولا إفتراءات، ولا إستهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة .. وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ .. بل الموجود هناك هو اللطف والصفاء والجمال والمتعة والأدب والطهارة، وكم هو طاهر ذلك المحيط البعيد عن الأحاديث المدنّسة التي هي السبب في أكثر إنزعاجنا وعدم إرتياحنا في هذه الدنيا، حيث اللغو والثرثرة والكلام اللامسؤول والتعبيرات الجارحة!
ثمّ يضيف سبحانه: (إلاّ قيلا سلاماً سلاماً)(1).
ويسأل هنا: هل أنّ هذا السلام من قبل الله تعالى؟ أو أنّه من قبل الملائكة؟ أو هو سلام متبادل بين أهل الجنّة، أو كلّ هذه الاُمور؟
الظاهر أنّ الرأي الأخير هو الأنسب، كما أشارت الآيات القرآنية الاُخرى إلى ذلك(2).
نعم إنّهم لا يسمعون شيئاً إلاّ السلام، سلام وتحيّة من الله، ومن الملائكة المقرّبين، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاُخوّة والصدق.
إنّ محيطهم وأجواءهم المغمورة بالسلام والسلامة تسيطر على وجودهم، وإنّ أحاديثهم وحواراتهم المختلفة تنتهي إلى السلام والاُخوّة والصفاء، وأساساً فإنّ الجنّة هي دار السلام وبيت السلامة والأمن والأمان، كما نقرأ في قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربّهم)(3)(4).
* * *
الأمثل في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل