اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد والعن عدوهم وعجل فرجهم
حب الله..
قال الله تعالى: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ". التوبة 24.
من الواضح أن حب الله تعالى يحتل موقعاً مميزاً في الإسلام وقد تكفلت النصوص الإسلامية ببيان حجم هذا الحب ومداه.
ولا بد لكل منا أن يطول وقوفه في ظلال هذه الآية المباركة التي تبين أن حب الله تعالى يجب أن يكون أكبر من حب الإنسان لهذه القائمة الطويلة والعزيزة:
الآباء, الأبناء, الإخوان, الزوجة, العشيرة, الأموال, التجارة, البيت, وإذا رجعنا إلى الروايات نستوضحها بعض أبعاد هذه الآية المباركة نجد أنفسنا أمام نتيجة واضحة هي أن المؤمن لا يحب إلا الله تعالى أو ما رضي الله بحبه أو أمر به.
فالمحبوب في الأساس وذاتاً, واحد لا محبوب غيره, وهو الله تعالى, ومن حبه يتفرع حب المصطفى وآل بيته صلى الله عليه وعليهم أجمعين, وسائر مظاهر الحب المشروع المستمد مشروعيته من رضوان الله تعالى.
عن الإمام الصادق عليه السلام: القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله .
==========================================
درجات المحبين:
سأل أعرابي أمير المؤمنين عليه السلام عن درجات المحبين ما هي؟ قال: أدنى درجاتهم من استصغر طاعته واستعظم ذنبه وهو يظن أن ليس في الدارين مأخوذ غيره فغشي على الأعرابي فلما أفاق قال: هل درجة أعلى منها قال: نعم, سبعون درجة .
إن عالم حب الله إذن رحب مترامي الأطراف, ومن الخطأ أن نحدد له سقفاً هو عبارة عن مناجاة هادئة أو دعاء خاشع.
إن حب بعض المفردات التي تضمنتها الآية الشريفة التي تقدم ذكرها, قد يصل بصاحبه إلى حد لا يقر له معه قرار, بل قد يصل به الأمر إلى ورود المهالك في سبيل هذا الحب, فكيف بحب الله تعالى الذي يجب أن يكون الحب الأوحد في القلب المخلوق لاحتضان هذا الحبيب فقط, على نحو الأصالة والإستقلال بطبيعة الحال.
وهكذا يمكننا أن نفهم من بعيد ما ورد عن رسول الله المصطفى وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين مما يكشف عن حب عارم لا يبارى, وهذه بعض النماذج:
1 – " وإن أدخلتني النار أعلمت أهلها أني أحبك ".
2 – " فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك, وهبني يا إلهي صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك ".
3 – " عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً
" ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك ".
4 – " سيدي أنا من حبك جائع لا أشبع, أنا من حبك ظمآن لا أروى, واشوقاه إلى من يراني ولا أراه ".
صحيح أن البشر عموماً عاجزون عن الوصول إلى مرتبة المصطفى سيد الخلق وأفضل الرسل ومراتب آل بيته المعصومين, إلا أننا جميعاً مأمورون بالحصول على القلب السليم وهو القلب العامر بحب الله.
===========================================
القلب السليم:
ورد عنهم - عليهم صلوات الرحمن – ما يوضح لنا حقيقة القلب السليم الذي لا ينفع غيره يوم القيامة, عن الإمام الصادق عليه السلام:
" القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط وإنما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة ".
وإذا أراد أحدنا أن يعرف منزلته عند الله تعالى فلينظر إلى منزلة الله في قلبه التي تكشف بدورها عن نسبة السلامة في هذا القلب.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:
من أحب أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن كل من خيِّر له أمران أمر الدنيا وأمر الآخرة فاختار أمر الآخرة على الدنيا فذلك الذي يحب الله ومن اختار أمر الدنيا فذلك الذي لا منزلة لله عنده "
وإذا لم تكف هذه العلامة, فإن هناك علامتين مميزتين يستطيع أحدنا أن يعرف بهما منزلة الله عنده:
1 – عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" علامة حب الله تعالى حب ذكر الله وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله عز وجل ".
2 – عن أمير المؤمنين عليه السلام:
القلب المحب لله يحب كثيراً النصب ( التعب ) لله, والقلب اللاهي عن الله يحب الراحة, فلا تظن يا ابن آدم أنك تدرك رفعة البر بغير مشقة, فإن الحق ثقيل مر ".===============================================
الطريق إلى حب الله أو القلب السليم:
يبدأ الطريق إلى حب الله في نفس النقطة التي يبدأ فيها ترك حب الدنيا.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" حب الدنيا وحب الله لا يجتمعان في قلب أبداً ".
وعن أمير المؤمنين عليه السلام"
" كيف يدّعي حب الله من سكن قلبه حب الدنيا ".
وهكذا نستنتج – والله العالم – أن الحب التام المكتمل لله تعالى لا يجتمع مع حب الدنيا في قلب أبداً, وبمقدار ما يتحرر الإنسان من أسر حب الدنيا يفوز بنعمة حب الله تعالى, أما إذا سكن حب الدنيا قلبه واستقر فيه فإنه لن يتذوق حلاوة حب الله تعالى على الإطلاق, ولعل الحديث التالي عن أمير المؤمنين عليه السلام يؤكد ذلك:
يقول عليه السلام: " كما أن الشمس والليل لا يجتمعان, كذلك حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان " ومن الواضح أن زوال الليل تدريجي, وكذلك طلوع الشمس وغلبة ضوئها, كذلك حب الله وحب الدنيا.
وعنه عليه السلام: " من أحب لقاء الله سلا عن الدنيا ".ولفظة " سلا " التي لا يتحقق مضمونها إلا تدريجياً بالإضافة إلى ما يكتنفه من معاناة تشير إلى هذا التدرج الطبيعي.
وإذا بلغ السلو عن الدنيا درجة " بغض الدنيا " و " والإكثار من ذكر الموت " ترتب عليه حب الله للإنسان, وهو أسمى من حب الإنسان لله.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أكثر ذكر الموت أحبه الله ".
عن عيسى عليه السلام: " ابغضوا الدنيا يحببكم الله ".ومن الطبيعي أن الدنيا التي نؤمر ببغضها هي الدنيا الحرام التي تجتمع مع المعاصي – أما الدنيا الحلال التي هي طريق إلى رضوان الله تعالى فنحن مأمورون بالحرص عليها " تمنَّ الحياة لتطيع لا لتعصي ".
==================================================
ومن الواضح أن الطريق إلى حب الله أو القلب السليم, طويل, مليء بالكبد محفوف بالمخاطر, ولذا اعتبر " الجهاد الأكبر ".
ويتوقف سلوكه على:
1 – معرفة الواقع.
2 – " وتطهير القلب ".
أما الأول فلأن الواقع غيب أكثر من كونه شهادة, فعالم الشهادة إذا قيس بعالم الغيب لا يكاد يذكر, والواقعي الوحيد في هذا الوجود هو الذي يدرك هذه الحقيقة فيعطي الدنيا كل ما تستحق, ويعطي الآخرة كل ما يستطيع, فيزهد في الدنيا ويكتفي بأخذ " نصيبه " منها, وهذا يعني أنه يرصد كل " ما آتاه الله " للآخرة أي يبذله في سبيل الله تعالى فيعمل على إعمار الدنيا كما أراد سبحانه يقارع الظلم وينتصر للمستضعفين والمحرومين باعتبار ذلك جزءاً من العبادة التي أمر بها الحق عز وجل.
هذا هو الواقعي الوحيد, ومن عداه واهمون ورجعيون, متخلفون.
وأما الثاني – تطهير القلب – فلأن عدم تطهيره وتزكيته هو سبب الإنزلاق والإنحدار في دركات حب الدنيا والرضا بها والإطمئنان إليها.
ولا يسقط المسلم في هوة سوء العاقبة فجأة وبلا مقدمات, بل ثمة عوامل تتفاعل في قلبه ونفسه حتى يواجه هذا المصير الكارثة, وهذه العوامل هي الأمراض القلبية في مجالي المعتقد والأخلاق, وما لم يحظ قلب كلٍّ منا بالرعاية الدائمة في هذين المجالين فإنه مهدد بسوء العاقبة دون شك.
" ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله ". الروم 10.
==============================================
آثار حب الله:
حين نحاول استعراض آثار حب الله أو القلب السليم ونتائجها نجد أن ذلك يتجلى في كل الميادين:
1 – في إعمار الكون, فمن الواضح أن الكون لا يعمر إلا بالعدل وهو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تم بناء الإنسان بناءاً سليماً يؤمن العدالة في كيانه ويؤهله لبسطها وتحقيقها في بيئته. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإسلام.
ستظل البشرية ترزح تحت نير الجور والظلم, ما لم تدرك هذه الحقيقة,
وبهذا أخبرنا ربنا عز وجل: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ". طه 124.
2 – في تحقيق سعادة الفرد والمجتمع, قد لا يتاح للفرد أو للمجتمع أن يعيشا في عالم يعمره العدل فهل من طريق إلى السعادة آنذاك, نعم, ولكنه يتوقف على أن يستعمل الفرد فيما خلق له وينشغل بما هو غداً مسؤول عنه, ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا عن طريق حب الله والقلب السليم, بذلك تحقق السعادة لنفسك, وهو السبيل إلى تخفيف أعباء معاناة المحرومين وإقامة التكافل الإجتماعي لكسر حدة الحاجة وإغاثة الملهوفين وتأمين سعادتهم بالنسبة الممكنة.
3 – في مواجهة الظلم ومقارعة الطواغيت:
المحب لله تعالى لا يرى في الكون خطراً لغير الله, صاحب القلب السليم لا يجد الخوف من الطواغيت إلى قلبه سبيلاً, من هنا كان حب الله تعالى المصنع الوحيد للمجاهدين الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الذين تزول الجبال ولا يزولون لأنهم " أهل البصائر " المتشوقون إلى لقاء الله, الباحثون عن سبل الوصول إليه ولو كانت بين مشتبك القنا وبارقة السيوف وأزيز الرصاص ودوي المدافع.
4 – في الحصول على السعادة الأبدية في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وفي الجنة التي أعدت للمتقين, والفوز برضوان من الله. وذلك هو الفوز العظيم.
من كتاب القلبُ السَّليم للسَّيّد عَبْد الحُسَيْن دَسْتغيْب ....
منقول