اللهم صل على محمد وآل محمد نجوم سماء المناقب وسفينة النجاة لكل راكب صلاة دائمة نامية
السلام عليكم احبتي جميعا ورحمة الله وبركاته
إنّ ما يعطي الإنسان ارتياحاً واطمئناناً في مواجهته للإنسان الآخر هو الأمن الّذي يتولّد من صدق المعاملة ووضوح الصورة، فعندما تتعامل مع إنسانٍ يقدّم لك وضوحاً في تصرّفاته وسلوكه ـ بحيث تكون هذه التصرّفات مملوءةً بالصدق والمحبّةـ
فإنّك تبادل هذا الإنسان أمناً وأماناً وراحةً وارتياحاً.
وعلى نقيض هذا الأمر عندما يحصل نوعٌ من الخداع والمماراة بحيث يتمّ إظهار شيءٍ وإخفاء شيءٍ آخر، فإنّ العلاقة حينئذٍ تكون في شكلها مأمونةً، إلا أنهّا في واقعها متزعزعةٌ ومرتبكةٌ
ولذلك يقول الأمير (عليه السلام): " ما أقبح بالإنسان أن يكون ذا وجهين "
وهذه الحالة هي حالة النفاق الّتي يعيشها بعض الأشخاص، وهي ممارسةٌ خلقيّةٌ سيّئةٌ تعتمد على إظهار الموافقة وإخفاء المخالفة، وعلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وكأنّ صاحبها يشقّ له نفقاً في الأرض للاستتار من الأعداء
يقول المولى سبحانه حاكياً حال هؤلاء: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }
{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
ويقول عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من خالفتْ سريرتُه علانيتَه فهو منافقٌ كائناً من كان "
وعنه أيضاً (صلى الله عليه وآله): " تجدون شرّ الناس ذا الوجهين، الّذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، وهؤلاء بوجهٍ "
خطورة المنافق
خطورة المنافق أشدّ من خطورة الكافر؛ وذلك أنّ الكافر عداؤه واضحٌ، وهذا الوضوح يوفّر استعداداً وحذراً يعطي قوّةً في المواجهة، وتحديد حجم الخطورة، بينما المنافق يعطيك صورةً تجعلك في أمانٍ واستئمانٍ، ويفاجئك بعد ذلك بطعناتٍ عديدةٍ ترهق جسمك، ولربما تقضي عليه، بل تُقبره!! ويأخذ هو بالبكاء عليك.
وما يزيد المنافق خطورةً عندما يمارس خبثه بحِرَفِيّةٍ عاليةٍ، تجعل من طعناته طعناتٍ غير محسوسةٍ، بل تجعلك تعيش حالةً من الوهم والجهل بأنهّا كجراح الطبيب الّذي يريد أن يعالجك، تحت مسمّياتٍ جميلةٍ مقبولةٍ، كمسمّى <النقد البنّاء>، و<الرأي الآخر> ونحوه.
أدوات المنافق وصفاته
يعتمد المنافق على إظهار صدق الصورة الظاهرة، ويحاول أن يعيش التكتّم على الباطن، وفي ذلك يعمد إلى استخدام الأدوات التالية:
الكذب
ليحافظ على صورته مشرقةً، وليقدّم للناس بياضاً ناصعاً، هذا هو الهدف والوجه الذي يجاهد المنافق لإبقائه طويلاً، فيعمد إلى الكذب كثيراً ليبرّر مواقفه، أملاً في نيل مبتغاه، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " بالكذب يتزيّن أهل النفاق "
عذوبة اللسان
اصطناع القناعات والمواقف والبطولات ضرورةٌ يلجأ لها المنافق دوماً لتحسين الصورة؛ وتقوية وجوده بين المؤمنين؛ وتعزيز تواجده كقيادةٍ يمكن التعويل عليها، وهذه البطولات لا بدّ لها من حاكٍ يحكيها، وهو لسانه العليم، الّذي لا يفتأ يحكي القصص ويفبركها
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): " أتخوّف عليكم منافقاً عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون "
وعنه (صلى الله عليه وآله): " إنّ أخوف ما أخاف عليكم بعدي كلّ منافقٍ عَليم اللسان "
المدح ظاهراً والغيبة باطناً
ما يغيض المنافق أن تتعالى شخصياتٌ إيمانيّةٌ كفوءةٌ عالياً، ويحترق قلبه غيظاً وحقداً عندما يجد الشخصيّة المناسبة في المكان المناسب، فتراه في حركةٍ دائمةٍ لإسقاط الشخصيّات الإيمانيّة أينما كانت باعتماد أسلوب <المدح ظاهراً والطعن باطناً>
يقول الإمام الباقر (عليه السلام): " بئس العبد عبدٌ يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً
إن أُعطي حسده، وإن ابتُلي خذله "
ونحن نعلم أنّ الغيبة تمارس دور الإسقاط للشخصيّات بصورةٍ فعّالةٍ، وما نهي الشريعة عنها إلا لذلك، وتعاظم النهي عنها حتّى غدت من الكبائر ليس اعتباطيّاً لاغياً، فتقطيع العلاقات وحبائل الودّ والمحبّة، وهدم الثقات بين أفراد المجتمع بعضهم البعض في غاية الخطورة، يقول المولى سبحانه وتعالى: { وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ }
ولكن أين المجيب لنهي الله؟!
فالمشكلة في ممارسة هذه الأداة الفتّاكة لا يقتصر على المنافقين وحدهم، بل يتعدّاه للفئات الإيمانيّة، وهنا المصيبة الكبرى!!
اللعب على أكثر من حبلٍ
يصف المولى سبحانه المنافقين فيقول: { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }
التذبذب وصفٌ ملازمٌ لحالة النفاق الّتي يعيشها المنافق، فهو يحاول أن يعيش مع كلّ الأطراف المتناقضة في قناعاتهم، ويبدي القناعة لطرحهم ولمواقفهم، ويسخر من مواقف وقناعات الطرف الآخر، وإذا جلس مع الطرف الآخر عاش معهم قناعاتهم ومواقفهم، وسخر من الطرف الأوّل، ممارسة الخداع بتعدّد الوجوه، بوجهين أو أكثر لا مشكلة، ما دامت المسألة لا تتطلب أكثر من تبديل الأقنعة والوجوه، فتبديل الأوّل إلى الثاني يتمّ بسرعةٍ فائقةٍ ومن دون أيّة مشكلةٍ.
يحكي لنا القرآن هذا السلوك للمنافق في عدّة مواضع:
منها قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
ومنها قوله أيضاً: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
هكذا هم المنافقون، ألوانٌ متعدّدةٌ، وأقنعةٌ مختلفةٌ، حسب الأجواء، وحسب الأفراد.
المظهر الجميل والخشوع الساحر
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إيّاكم وتخشّع النفاق، وهو أن يُرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشعٍ "
ما أقدر المنافق على اصطناع الإيمان الزائف! والخشوع الساحر الخادع! حركات الجسد وجمود القلب، هكذا هو النفاق عندما يتلاعب بالجسد ليُظهر مظاهر الإيمان والخشوع والقلب منها براءٌ؛ إذ هو في وادٍ آخر من المعاصي والفجور
يقول الباري سبحانه: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَّقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }
" تعوّذوا بالله من خشوع النفاق: خشوع البدن ونفاق القلب "
هكذا حالهم، جمالٌ في المظهر، ولكن فقدانٌ للروح والقلب، فهم كالخشبة المسنّدة الّتي لا روح فيها.
ما الّذي يفضح المنافق؟
المنافق لا بدّ وأن يقع في مزالق وأخطاء تفضح سريرته وخبث باطنه، ولكن على رجال الله المخلصين أن يكونوا أذكياء بما يكفي لمعرفة هؤلاء.
أقوالٌ ولا عملٌ
مشكلة المنافق تكمن في أنّه يتحدّث كثيراً ولا يفعل شيئاً مما قد أمر به ودعا إليه
يقول الأمير (عليه السلام): " أظهر الناس نفاقاً من أمر بالطاعة ولم يعمل بها، ونهى عن المعصية ولم ينتهِ عنها "
فما أكثر الأقوال والادّعاءات، ولكن في الواقع العمليّ لا شيء
فهم أفضل مصداقٍ للمثل الذي يقول: " أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً "
هربٌ عند المحنة والشدّة
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
لا يمتلك المنافق ثباتاً على الموقف، بل إنّه يتنازل عن الموقف وأصحابه عندما تتعارض مع مصالحه الشخصيّة، فالهرب عند المحنة خير دليلٍ على نفاقه.
منقول/ مقال لسماحة الشيخ رائد الستري