نكمل ما جاء من تأملات في ماذكره إمامنا الصادق عليه السلام في حديثه المبارك لعنوان البصري
فدخل على الإمام(عليه السلام) وسلّم عليه، فردّ عليه الإمام(عليه السلام) السلام. وقال له: اجلس غفر الله لك.
فجلس عنوان، وكان الإمام(عليه السلام) لا يزال في مصلاّه، فاطرق الإمام طويلاً، ثم رفع رأسه، وسأله عن كنيته، فقال له عنوان: (أبوعبدالله)، فدعا له الإمام(عليه السلام). وقال له: ثبّت الله كنيتك، ما مسألتك؟ فسرّه هذا الدعاء من الإمام، وقال لنفسه: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم عليه غير هذا الدعاء لكان كثيراً.
قال عليه السلام لعنوان البصري : ما مسألتك؟ فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإنْ أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك. قلت: يا شريف، فقال: قل يا أبا عبدالله، قلت: يا أبا عبدالله ما حقيقة العبودية؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره هان عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما الى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هان عليه الدنيا وابليس والخلق ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس ولا يدع ايامه باطلاً، فهذا اول درجات التقى، قال الله تبارك وتعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً
محمد مهدي الآصفي :
واليكم طائفة من التأملات حول هذا الحديث الشريف; وهو حديث جمّ الفوائد، فننتقي من فوائده قدر ما يسعه صدر هذا المقال، وأهم ما فيه: العلم والمعرفة
العلم والمعرفة
المقصود بـ (العلم) في هذا الحديث (المعرفة) والعلم غير المعرفة.
العلم: طائفة من المعلومات تشغل الذاكرة، وليس لها علاقة بالسلوك .
أما المعرفة: فلها علاقة مباشرة بسلوك الانسان وأخلاقه.
وإذا أردنا أن نترجم المعرفة الى مفرداتنا اللغوية الحديثة يمكننا أن نترجم هذه الكلمة بـ (الثقافة)، وبين (العلم) و(الثقافة) اليوم مثل ما بين (العلم) و (المعرفة) في تاريخنا الفكري.
وفي الآية الكريمة التالية نجد العلاقة بين المعرفة والسلوك والأخلاق بشكل واضح يقول تعالى: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)، والمقصود بالعلماء في هذه الآية أصحاب المعرفة والآية الكريمة تشير الى العلاقة الطردية بين المعرفة وخشية الله تعالى.. وأن حظّ الإنسان من خشية الله تعالى هو حظّه من المعرفة، وكلما كان حظّه من المعرفة أكثر كان حظّه من خشية الله تعالى أعظم.
العلاقة بين المعرفة والخشية
في كتاب الله نلتقي حصرين في العلاقة بين (المعرفة) و (الخشية):
تحصر الاُولى خشية الله تعالى في أصحاب المعرفة وتحصر الثانية خشية أصحاب المعرفة في الله تعالى والحصر الثاني غير الحصر الأول.
أما الاُولى فهي قوله تعالى: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)وهي تحصر الخشية في عباد الله العارفين، وليس يخشى الله إلاّ العارفون بالله، ولا يخشى الله من لا معرفة له، وكل انسان يخشى الله بقدر معرفته وهذا هو الحصر الأول.
والآية الثانية هي قوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) وهي تحصر خشية العارفين في الله تعالى: والذين يبلغون رسالات الله هم أصحاب المعرفة، وهؤلاء يخشون الله، ولا يخشون أحداً إلاّ الله، والسلب والايجاب من أدوات الحصر، اثبات الخشية من الله، ونفي الخشية عند غير الله.
وقد يتحول العلم الى معرفة في الأوعية الواعية فالنجوم علم والنبات علم والحيوان علم والطب علم، إلاّ أن هذه العلوم قد تتحول في النفوس الواعية الى معرفة بالله تعالى وإيمان ويقين وخشية وخشوع وطاعة.
ولسنا نريد أن ننتقص من قيمة العلم، وإنّما نريد أن نفرّق بين
العلم والمعرفة، فانّ الرياضيات والهندسة والصيدلة علوم نافعة ومفيدة، يجب أن نقتنيها ولكنها ليست بمعارف، أما الأخلاق والعقائد والعرفان فهي من المعارف.
والقرآن بصائر ومعارف وفقه، جاء اعرابي الى رسول الله(صلّى الله عليه وآله) فأمر رسول الله(صلّى الله عليه وآله) بعض أصحابه أن يعلّمه القرآن. فأقرأه الصحابي سورة الزلزال حتى إذا بلغ قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) قال الاعرابي: يكفيني ما قرأت، وذهب لشأنه، فأخبر الصحابي رسول الله(صلّى الله عليه وآله) بما حدث فقال له رسول الله(صلّى الله عليه وآله): ـ كما في الرواية ـ جاء اعرابياً ورجع فقيهاً.
وشتان بين من رجع فقيهاً بآية من القرآن تلقاها و وعاها وبين اولئك الذين يحملون علماً جماً من اسفار الأنبياء السابقين، ثم لا يهتدون الى الحق ويصدون عن سبيل الله، ويصفهم القرآن بهذا الوصف الغريب: (كمثل الحمار يحمل أسفاراً).
العلاقة التبادلية بين المعرفة والسلوك
بين المعرفة والسلوك علاقة تبادلية (جدليّة) يذكرها القرآن، يقول تعالى: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء) وهذه الآية تبيّن علاقة المعرفة بالسلوك، فانّ الخشية من الله تعالى من نتائج المعرفة، وبقدر ما يكتسب الإنسان من المعرفة، يرزقه الله تعالى الخشية. والعكس أيضاً صحيح، يقول تعالى: (واتّقوا الله ويعلمكم الله) وفيها يوضح القرآن العلاقة بين السلوك والمعرفة، فمن يتق الله يرزقه الله المعرفة وهي واضحة في علاقة السلوك بالمعرفة.
الشيخ محمد عبده يستنكر في (المنار) تفسير الآية الكريمة على هذا النهج رغم ان هذا المعنى هو المعنى الذي يتبادر الى الذهن من الآية الكريمة، ويقول: ان هذا من قول الصوفية، وان العلم يحصل بالدراسة، وليس التقوى هو سبيل الوصول الى العلم.
وكلام الشيخ صحيح إذا كان المقصود بـ (العلم) في هذه الآية المعنى المصطلح من العلم في مقابل المعرفة .
فليس للعلم علاقة بالتقوى، وإنما له علاقة بالدراسة، فمن درس الرياضيات اتقن هذا العلم، اتقى الله أم لم يتق.. أما إذا كان المقصود بـ (العلم) في هذه الآية: المعرفة، وهو ما يظهر من جوّ الآية، فانّ كلام الشيخ لا يخلو عن مؤاخذة، فإنّ الله تعالى جعل التقوى مفتاحاً للهدى والبصائر والإيمان في حياة الإنسان. فمن اتقى الله تعالى رزقه الله بصائر المعرفة، ومن لم يتق الله حُرِمَ من بصائر المعرفة.
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
ويقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً ).
إنّ الله تعالى يهب هذا النور والفرقان لعباده بالتقوى، فمن آمن واتقى آتاه الله نوراً وفرقاناً في حياته، ومن لم يتق الله حجب عنه هذا النور، إنّ المعرفة نور يقذفه الله في قلب من يشاء.
يقول تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون).
ان هذا النور الذي يجعله الله لمن يحب من عباده، والذي يستنير به الصالحون من عباده في حركتهم وحياتهم وسلوكهم هو المعرفة.
والعلم ليس نوراً، وقد يكون العالم أعمى، عديم الرحمة، عديم المعرفة، عديم القيم، عديم الفطرة، يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، وهو يتبوأ موقعاً رفيعاً من العلم.
وكثير هم العلماء الذين سلب الله تعالى منهم كل نور ومعرفة. وقد رأينا في حياتنا علماء كثيرين وضعوا تجاربهم وخبراتهم العلمية في متناول مجرمي الحرب، هؤلاء علماء، من غير شك، إلاّ أن علومهم تحولت الى حجاب بينهم وبين الله. ورحم الله علماءنا من السلف الصالح كانوا يقولون: العلم الحجاب الأكبر، وذلك أن العلم يبعث في نفس العالم، أول ما يبعث، العجب والغرور، وهما من أعظم الحُجب في حياة الإنسان .