اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
ــ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الدعوات التي أكدت النصوص الاِسلامية على أنّها لا تستجاب :
1 ـ الداعي الذي يطلب تغيير حالة ناتجة عن ارتكابه إثماً ، أو تقصيراً في واجب .
ومثل هذا الداعي لا يمكن أن يترتّب أثر على دعائه حتى يتوب مما ارتكب أو يزيل أسباب حصول تلك الحالة وعللها .
مثال ذلك المظلوم الذي يدعو لازالة مظلمته وهو متحمّل لمظالم العباد وتبعات المخلوقين ، فهذا هو الذي يدعو لتغيير الحالة الناتجة عن ارتكابه إثماً .
قال الاِمام الصادق عليه السلام : « قال الله عزَّ وجلّ : وعزتي وجلالي لا أُجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة ظلمها ، ولاَحد عنده مثل تلك المظلمة »
وعنه عليه السلام أنّه قال : « إذا ظُلِمَ الرجل فظلّ يدعو على صاحبه ، قال الله عزَّ وجلّ : إنّ هاهنا آخر يدعو عليك ، يزعم أنك ظلمته ، فإن شئت أجبتك ، وأجبت عليك ، وإن شئت أخّرتكما فيوسعكما عفوي » .
ومثال طلب تغيير الحالة الناتجة عن التقصير في واجب ، التواكل في الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذلك لاَنّهما واجبان وجوباً كفائياً لقوله تعالى : ( ولتكن أُمّةٌ يدعُونَ إلى الخيرِ ويأمرُونَ بالمعروفِ ويَنهونَ عنِ المنكَر) وإنّ صلاح المجتمع وفساده منوطان بالقيام بهذين الفرضين أو عدمه ، فلو تواكل العباد فيهما وتركوهما ، فستُتاح الفرصة للاَشرار والظلمة كي يتسلّطوا على مقدّرات الناس ، وينزوا على مقاليد الحكم ، وعليه فقد تجد أُمّة كاملة تدعو على ظالم واحد فلا يستجاب لها، إلاّ أن يتوبوا عما بدر منهم ويطيعوا الله فيما فرضه عليهم ( إنّ اللهَ لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيَرُوا ما بأنفُسِهِم ).
قال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : «لا تتركوا الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم »
وقال الاِمام الصادق عليه السلام : « من عذر ظالماً بظلمه ، سلّط الله عليه من يظلمه ، وإن دعا لم يستجب له ، ولم يأجره الله على ظلامته »
2 ـ الدعاء على خلاف سنن التكوين والتشريع :
على الداعي أن يفهم سنن الله تعالى التكوينية والتشريعية ، وأن يدعو ضمن دائرة هذه السنن ، فليس من مهمة الدعاء أن يتجاوز هذه السنن التي تمثّل إرادة الخالق التكوينية ورحمته ولطفه ، قال تعالى : ( فهل ينظرون إلاّ سُنَّةَ الاَولينَ فلن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تبدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تحويلا )
روى الاِمام موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام : « أن زيد بن صوحان قال لاَمر المؤمنين عليه السلام : أي دعوة أضلّ ؟ قال عليه السلام : الداعي بما لا يكون » أي لا يقع ضمن دائرة سنن التكوين .
إنّ الدعاء طلب المقدرة والعون للوصول إلى أهداف مشروعة أقرّتها الخليقة والتكوين أو الشرائع الالهية للاِنسان ، وهو بهذه الصورة حاجة طبيعية لا يبخل الباري تعالى بلطفه ورحمته على الداعي بالعون حيثما وجدت الحاجة لذلك ، وحيثما كان الداعي مراعياً للشروط والآداب ، أما أن يطلب أشياء تخالف أهداف التكوين والتشريع فان دعاءه لا يستجاب كمن يسأل الله تعالى إحياء الموتى ، أو الخلود في دار الدنيا ، أو غفران ذنوب الكفار ، أو يدعو على أخيه المؤمن ، أو في قطيعة رحم ، أو يطلب شيئاً محرماً ، وغير ذلك من الدعوات التي لا تكون مصداقاً حقيقياً للدعاء.
قال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « يا صاحب الدعاء ، لا تسأل ما لا يحلُّ ولا يكون » وما لا يحلّ يُعدّ خروجاً عن سنن التشريع الاِلهية ، وما لا يكون يعد خروجاً عن سنن التكوين .
وقال عليه السلام : « من سأل فوق قدره استحق الحرمان » أي إذا تجاوز الحدّ في دعائه بحيث لا يكون طلبه واقعياً ، كأن يسأل الخلود في دار الدنيا .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ أصنافاً من أُمتي لا يستجاب لهم... ورجل يدعو في قطيعة رحم » ذلك لاَنّ هذا الدعاء على خلاف سنن التشريع القاضية بصلة الرحم .
وروي عن شعيب ، عن الاِمام الصادق عليه السلام ـ في حديث ـ أنّه قال له : أدعُ الله أن يغنيني عن خلقه . فقال عليه السلام : « إنّ الله قسّم رزق من شاء على يدي من شاء ، ولكن سَلِ الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك إلى لئام خلقه »
وذلك لاَنّ حاجة الناس بعضهم إلى بعض في أمور دينهم ودنياهم من سنن الله تعالى في الخلق ، فلا يجوز أن يدعو الاِنسان ربّه كي يغنيه عن الناس ؛ لاَنّه دعاء على خلاف سُنّة الله تعالى وارادته الحكيمة .
ومن الاَدعية المخالفة لسنن التشريع ، دعاء المرء على نفسه في حالة الضجر، قال تعالى: ( ويدع نسانُ دعاءهُ بالخيرِ وكانَ الاِنسانُ عجولاً )
قال ابن عباس وغيره : إنّ الاِنسان ربما يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يحبّ أن يستجاب له فيه ، كما يدعو لنفسه بالخير ، فلو أجاب الله دعاءه لاَهلكه ، لكنه لا يجيب بفضله ورحمته .
ولا يتوقف الاَمر عند حدود الاَمثلة التي ذكرناها أو التي ذكرتها الروايات ، بل يشمل جميع الدعوات المخالفة لسنن الله تعالى في الكون والطبيعة والمجتمع والتاريخ .
3 ـ الدعاء بلا عمل :
الدعاء من مفاتيح الرحمة الاِلهية التي جعلها الباري تعالى بأيدينا لنستفتح بها خزائن لطفه ورحمته ، ونطلب بها مغفرته وفضله ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : «... فأكثر من الدعاء ، فإنّه مفتاح كلّ رحمة ، ونجاح كلّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله عزَّ وجلَّ إلاّ بالدعاء » .
والعمل يقترن مع الدعاء في كونه أحد مفاتيح الرحمة الاِلهية الواسعة ، قال تعالى : ( فمن يعمل مِثقَالَ ذَرّةٍ خيراً يره ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ لله عباداً يعملون فيعطيهم ، وآخرين يسألونه صادقين فيعطيهم، ثمّ يجمعهم في الجنة، فيقول الذين عملوا : ربنا عملنا فأعطيتنا ، ففيما أعطيت هؤلاء ؟ فيقول : هؤلاء عبادي ، أعطيتكم أجوركم ، ولم ألتكم من أعمالكم شيئاً ، وسألني هؤلاء فأعطيتهم وأغنيتهم ، وهو فضلي أوتيه من أشاء »
وعلى الرغم من حالة الاقتران بين الدعاء والعمل ، إلاّ أن الدعاء لا يغني عن العمل ، ولا يصح الاكتفاء بالدعاء عن السعي والمثابرة والجد ، الدعاء مظهر من مظاهر الحاجة الحقّة ، وإنّما يدعو الاِنسان عندما لا يكون مطلوبه ميسوراً له أو في متناول يده ، أو يكون عاجزاً ضعيفاً لا يمتلك القدرة على تحصيله ، أمّا إذا خوّله الله تعالى مفتاح الحاجة فتكاسل عن استعماله ، والتجأ إلى الدعاء دون جدٍّ واجتهاد ، فان دعاءه لا يستجاب ، مثال ذلك المذنب الذي يستغفر الله تعالى ويدعوه التوبة ، ولكنه لا يثابر في تغيير ما في نفسه وتهذيبها باقتلاع عناصر الشر والفساد .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لاَبي ذر رضي الله عنه : « يا أبا ذر ، مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر » .
وقال الاِمام أمير المؤمنين علي عليه السلام : « الداعي بلا عمل ، كالرامي بلا وتر »
ولذلك ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام كثير من الاَحاديث التي تخبرنا عن أصناف من الناس لا تستجاب لهم دعوة ؛ لاَنّهم استغنوا بالدعاء عن السعي والجد والمثابرة .
قال الاِمام الصادق عليه السلام : « أربعة لا تستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللهمّ ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ ورجل كانت له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك ، ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهمّ ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالاقتصاد ؟ أمل آمرك بالاصلاح ؟ ثم تلا قوله تعالى : ( والَّذينَ إذا أنفَقُوا لم يُسرِفُوا ولم يقترُوا وكانُ بينَ ذلِكَ قَوَاماً ) ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، فيقال له : ألم آمرك بالشهادة ؟ »
وعن عمر بن يزيد ، قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : رجل قال : لاَقعدنّ في بيتي، ولاَصلينّ ولاَصومنّ، ولاَعبدنّ ربي ، فأمّا رزقي فسيأتيني ، فقال عليه السلام : « هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم »
ويضيف الاِمام الصادق عليه السلام صنفاً آخر ممن اتكل على الدعاء تاركاً الجدّ والسعي ، وهو الذي يدعو على جاره وقد جعل الله عزَّ وجلّ له السبيل في الخلاص ، يقول عليه السلام في حديث الثلاثة الذين لا تستجاب لهم دعوة : «ورجل يدعو على جاره وقد جعل الله عزَّ وجلّ له السبيل إلى أن يتحول عن جواره ويبيع داره »
وهذا الاَمر عام لا يقتصر على الاَمثلة المذكورة في الاَحاديث وحسب، وإنّما هي أمثلة لجميع الاَحوال التي يكون الاِنسان فيها قادراً على حل مشكلته بالعمل والتدبر ، ولكنّه يتكاسل عن ذلك فيقيم الدعاء مقام العمل .
والحق أن الدعاء مكمّل للعمل ومتمم له ، فإذا كان الله تعالى قد حبانا القدرة لتحقيق المطلوب ، وهدانا إلى السبيل المؤدي إلى ما نصبو إليه ، فلا بدّ من السعي المقترن بالدعاء ، لتكون عاقبة السعي أكثر ثواباً وأجزل أجراً .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «يدخل الجنة رجلان ، كانا يعملان عملاً واحداً ، فيرى أحدهما صاحبه فوقه ، فيقول : يا ربِّ بما أعطيته وكان عملنا واحداً ؟ فيقول الله تبارك وتعالى : سألني ولم تسألني ، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : اسألوا الله وأجزلوا ، فإنّه لا يتعاظمه شيء »
المصدر / الدعاء .. حقيقته وآثاره