وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
امتحان النبي إبراهيم المجيد بذبح طفله الوحيد
وقد تمثل امتحان النبي إبراهيم عليه السلام الأشد من كل امتحان تعرض له في مسيرته الحياتية -بأمره من قبل الله في عالم الطيف- بذبح ولده إسماعيل عليه السلام.
وحيث إن رؤيا الأنبياء حق فقد اعتقد بسببها أنه مأمور بذبح ولده هذا واقعاً وأمره بذلك يتضمن أمر إسماعيل عليه السلام أيضاً بتقديم نفسه قربة وقرباناً لله تعالى.
وقد شارك هذا الولد المؤمن حقاً والموحد واقعاً أباه في الاعتقاد بأنّه مأمور بذلك، أي بتقديم نفسه المطمئنة في سبيل مرضاة الله سبحانه؛ ولذلك أبدى الاستعداد لقبول تنفيذ أمره تعالى عندما أخبره والده الجليل بالتكليفين المذكورين، المتوجه أحدهما إلى الأب مباشرة وبصراحة والآخر موجه إلى الابن ضمناً وبالتبع والإشارة. والحر تكفيه الإشارة.
وقد ورد التكليفان المذكوران في قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانُظر مَاذَا تَرَى قَالَ يَأَبَتِ أفْعَلْ ما تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ الصافات: 102.
فالمفهوم من هذه الآية المباركة أن النبي إبراهيم عليه السلام اعتقد بسبب هذه الرؤيا بأنه مأمور بذبح ولده وتقديمه قربناً لله تعالى.
كما اعتقد إسماعيل عليه السلام تبعاً لاعتقاد والده بأنه مأمور بتقديم نفسه قرباناً في سبيل مرضاة الله تعالى وأن والده مستعد لتنفيذ أمر ربه وتنفيذ إرادته وإن كان ذلك من أصعب التكاليف وأشدها وقعاً على شعوره وعاطفته الأبوية وأراد الاستفهام ومعرفة حال ولده هذا وهل هو مستعد لتقديم نفسه وتنفيذ أمر ربه بطواعية وانقياد لإرادة رب العباد فخاطبه قائلاً فانظر ماذا ترى؟.
فأجابه على الفور وبدون تردد يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
وحكى الله سبحانه قصة إقدام هذين النبيين العظيمين على امتثال أمر ربهما الأعظم بقوله تعالى:
﴿فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلّجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاؤا المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأَخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيم كَذِلَكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤمِنِينَ﴾ الصافات: 103-111.
فقد بيّن الله سبحانه بهذه الآيات البينات عدة نقاط حيوية جديرة بالتنبه لها والالتفات إليها من أجل استيحاء العبر الموجهة والدروس المربية.
النقطة الأولى هي أن إقدام كل واحد من الوالد والولد على تنفيذ أمر الله سبحانه لم يكن عن ضغط خارجي، مثل خوف العقوبة الصارمة المترتبة على المخالفة العملية للوظيفة الشرعية، وإنما كان عن تسليم لأمر الله سبحانه ورضا بقضائه. وهذا هو روح العبودية الكاملة والعبادة المخلصة لله تعالى، وهي القسم الثالث من أقسام العبادة الذي اختاره الإمام علي عليه السلام؛ لأنه يمثل غاية الخضوع وقمة الخشوع أمام عظمة الخالق المعبود بحق وجدارة حيث قال عليه السلامإلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
وقد عبر الله سبحانه عن تسليمهما الخاشع أمام قضائه الواقع بقوله سبحانه ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا...﴾.
النقطة الثانية إن إقدام النبي إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده إسماعيل الطفل الوحيد لم يكن مشوباً بشيء من الرقة والعطف الأبوي الذي يقتضي بطبعه التريث والبطء في مقام الامتثال كما هو واضح بمقياس العاطفة البشرية وخصوصاً العاطفة الأبوية وعلى الأخص مع الطفل الوحيد الوديع الذي بلغ من العمر مرحلة تساعده على العمل في سبيل خدمة أبويه ومساعدتهما على تحقيق بعض الخدمات ولا سيما إذا كان الوالد شيخاً كبيراً كما كان بالنسبة إلى موضوع الحديث وموضع الإعجاب والتقدير.
ويستفاد من ما ذكرناه في هذه النقطة من قوله تعالى ﴿وتله للجبين﴾ حيث يفهم من هذه الكلمة معنى القوة على ضوء ما ورد في تفسيرها لغة وشرحاً في كتب التفسير.
قال المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كاشفه مفسراً مفردات الآية المذكورة بقوله أسلما استسلما لأمر الله تعالى. وتله صرعه وألقى به على الأرض.
وهذا يدل على أن حرارة الإيمان المتوهجة في قلبه غلبت على حرارة العاطفة الأبوية، لتصبح بحكم العدم، وهذا هو المتوقع من المؤمن الرسالي المثالي الذي باع نفسه وماله وأولاده وكل ما يتعلق به في هذه الحياة لله تعالى، بأنّ له في مقابل ذلك جنةً عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
والسر في ذلك هو أن المؤمن الواعي الواقعي يرى بعين فطرته الصافية وبصيرته النافذة أن نفسه وماله وأولاده وكل ما هو تحت يده وتصرفه في هذه الحياة هو ملك لله تعالى المالك الحقيقي للكون كله بما فيه الإنسان ولذلك يجب عليه أن يصرفَه ويتصرف به وفق مرضاته وإذا طُلب منه تسليمه له وإعادته إليه وجبت عليه المبادرة إلى التسليم عملاً بقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يأمُرُكُم أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ النساء: 58.
وقد أدرك بعض المؤمنين هذه الحقيقة الإيمانية وتعامل مع حادثة وفاة ولده البالغ من العمر عشرين عاماً - على هذا الأساس وحاصل قصته أن هذا الوالد المؤمن الواعي كان مشغولاً بإلقاء محاضرة على طلابه في مدرستهم وفي الأثناء بلغه نبأ وفاة ولده هذا فقابل هذا النبأ بالصبر والتسليم وقوة الإرادة الإيمانية واستمر على إلقاء المحاضرة وبعد فراغه منها سأله أحد طلابه عن مضمون النبأ الذي بلغه أثناء المحاضرة فأخبره بكل هدوء واطمئنان وكأنه لم يحدث شيء يذكر.
وهذه ظاهرةٌ غريبة وعجيبة تلفت النظر وتثير الاستغراب والإعجاب في الوقت نفسه، وعندما سألوه عن سبب ضبط أعصابه ومقابلته هذا النبأ العظيم بصبر وتسليم، أجابهم بلسان المؤمن الواثق بعدالة السماء الراضي بالقدر والقضاء أنا لم أُفاجأ بما حصل لأني كنت مؤمناً منذ البداية بأن ولدي كان أمانة عندي لله تعالى وأنا أحمد الله سبحانه وأشكره على أن أبقى أمانته عندي طيلة عشرين سنة ولم يأخذها قبل ذلك. وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى بقوله:
وما الناس والأهلون إلا ودائع... ولا بد يوماً أن ترد الودائع
والنتيجة الإيجابية المترتبة على الاعتراف بهذه الحقيقة الإيمانية والعمل بمقتضى هذا الاعتراف.
هي أولاً حصول الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم لإرادته والصبر على حكمه ومشيئته القاضية بفراق المحبوب كالولد أو أي عزيز من الأقرباء أو الأصدقاء ومثله فراق الصحة أو المال ونحو ذلك من متاع الدنيا أو وقوع المكروه من مصائب الزمن ونوائب الدهر - ولا شك أن الرضا بقدر الله والتسليم لأمره يخفف من وقع المصيبة ويسهل على المؤمن تحملها.
وثانياً ترتب الأجر العظيم والثواب الجسيم على الصبر والرضا بقضاء الله الرحيم الحكيم مضافاً إلى سقوط الحساب عنه ليدخل الجنة بغير حساب ولا عتاب وتلك فائدة جسيمة ومنفعة عظيمة يستفيدها المؤمن بتسليمه لقضاء ربه العادل وصبره على ما يقدره له من فراق محبوب أو وقوع مكروه، قال سبحانه ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُون أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾ الزمر:10.
وقال سبحانه:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ البقرة: 155 و156 و157.
والذي يهون المصيبة على المؤمن ويجعله في حالة تصبر وجلد هو إيمانه بالعوض الأكبر والجزاء الأوفر يوم القيامة.
النقطة الثالثة التي تضمنتها الآيات المذكورة في سورة الصافات هي أن الله سبحانه أراد بإجراء الامتحان للنبي إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام -بالنحو الذي طلبه منهما في الطيف وشاءت إرادته الحكيمة- أن يحصل لهما العلم بأن التكليف الذي وُجه إليهما في المنام تكليف واقعي حقيقي يُراد امتثاله كالصلاة والصوم والحج والزكاة ونحوهما من الواجبات الشرعية الإلهية.
أجل أراد الله سبحانه بهذا الامتحان الصعب أن يُظهر مقام هذين النبيين العظيمين وأنهما مستعدان لأن يقدم أحدهما نفسه والآخر ولده قرباناً لله تعالى وطلباً لمرضاته. هذا من جهة. ومن جهة أخرى أراد الله سبحانه أن يقدم منهما قدوةً مُثلى وأسوة فضلى للأجيال المؤمنة عبر التاريخ لتقتدي بهما في مجال الجهاد والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الحق والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر.
وقد شاء الله تعالى أن يخلد ذكرهما العاطر وذكراها الحافلة بكل أنواع التضحية والفداء - وذلك بجعل تقديم الهدي من الشعارات الواجبة في حج التمتع على من استطاع إليه سبيلاً. وفي اليوم العاشر من ذي الحجة وفي نفس المكان الذي أقدم النبي إبراهيم عليه السلام على تقديم ولده فيه قرباناً لله وامتثالاً لأمره باعتقاد أن ذلك كان هو الذي أوجبه الله عليه في المنام وحيث أن الواجب الذي كان مطلوباً منه في الواقع هو نفس الإقدام على ذبح ولده، هذا لأن ذلك كافٍ لنجاحه في الامتحان وظهور أنه مستعدٌ للإقدام على تقديم ولده في سبيل الله فيُعرف مكانه الرفيع عند الله وتُرسم بذلك القدوة المثلى والأسوة الحسنة للآخرين كما أراد رب العالمين - وقد تحقّق منه ذلك الإقدامُ وترتب عليه الغرض المنشود ولذلك أخبره الله بالحقيقة بقوله تعالى:
﴿وَنَاديْناهُ أَن يَا إبراهيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجِزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاؤا المُبينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم﴾ الصافات: 104 و105 و106 و107.