وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
السير باتجاه بيت المقدس
جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته أوّلا، وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي إرتكبوها ثانياً، ولكي تحفزهم إلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها.
" وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ{20}
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ{21}
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{22}
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{23}
قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{24}
قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{25}
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{26}
الايات ٢٠ الى ٢٦ من سورة المائدة
المفردات
يذكر القرآن اليهود في الآية الاُولى بما قاله النّبي موسى (عليه السلام) لأصحابه حيث تقول: " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ "
ولا يخفى أنّ عبارة " نِعْمَةَ اللّهِ " تشمل جميع الأنعم الإلهيّة، لكن الآية استطردت فبيّنت ثلاثاً من أهم هذه النعم، أوّلها نعمة ظهور أنبياء وقادة كثيرين بين اليهود، والتي تعتبر أكبر نعمة وهبها الله لهم، فتقول الآية: " إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ " وقد نقل أنّ في زمن موسى بن عمران وحده كان يوجد بين اليهود سبعون نبيّا.
بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها الله لليهود فتقول: " وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا " وتعتبر هذه النعمة أيضاً مقدمة للنعم المعنوية، فقد عانى بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة، بل كانوا يعاملون معاملة البهائم المكبلة في القيود، وقد أنقذهم الله من كل تلك القيود ببركة النّبي موسى بن عمران (عليه السلام) وملكهم مصائرهم ومقدراتهم.
وتشير هذه الآية في اخرها إلى أنّ الله قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان نعماً لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول: " وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ " وكانت هذه النعم الوافرة كثيرة الأنواع، فمنها نجاة بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة، وانفلاق البحر لهم، ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المن والسلوى».
والآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة نقلا عن لسان نبيّهم موسى (عليه السلام) فتقول: " يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ "
وقد اختلف المفسّرون حول المراد بعبارة " الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ " الواردة في الآية، وحول موقعها الجغرافي من العالم لكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة في ذيل الاية، لأنّ هذه الأرض كما يشهد التاريخ تعتبر مهداً للأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومحلا لظهور الأديان السماوية الكبرى،
ويستدل من جملة " كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ... " على إنّ الله قد قرر أن يعيش بنو إسرائيل في الأرض المقدّسة بالرغد والرخاء والرفاه (شريطة أن يحموا هذا الأرض من دنس الشرك والوثنية) وأن لا ينحرفوا (عن تعاليم الأنبياء) وإن لم يلتزموا بهذا الأمر فسيحيط بهم من قبل الله عذاب أليم شديد.
تقول الآية: " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ "
انّ كلمة " جَبَّارِ " مأخوذةٌ أو مشتقة من الأصل (جبر) أي إصلاح الشيء بالقسر والإرغام، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور (تجبيراً) فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح، ومن جهة اُخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري، وحين تطلق كلمة " جَبَّارِ " على الله سبحانه وتعالى فذلك إمّا لتسلطه على كل شيء، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح.
اما الجبارون في الاية فهم قوم من العنصر السامي كانوا يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا مصر واستولوا عليها وكانوا يمتلكون أجساماً ضخمة، وكانت لهم أطوال خارقة، اذ كان على بني إسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم،
بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم الله عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة واجها بني إسرائيل بقولهما: ادخلوا عليهم من باب المدينة، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الأمر الواقع فتكونوا أنتم المنتصرين، تقول الآية الكريمة في هذا المجال: " قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ " .
وتؤكّد الآية بعد ذلك ضرورة الإعتماد على الله في كل خطوة من الخطوات، والاستمداد من روح الإيمان بقوله تعالى: " وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " .
مع كل الاحتمالات العديدة الواردة في تفسير جملة " مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ " إلاّ أنّ الواضح من ظاهر هذه الجملة، هو أنّ الرجلين المذكورين في الآية هما من جماعة تخاف الله وتخشاه وحده دون غيره،
تقول الآية الكريمة: " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ "
وتبيّن هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إليها بنو إسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسى (عليه السلام)، فهم بقولهم «لن» و«أبداً» أكدوا رفضهم القاطع للدخول إلى الأرض المقدّسة، كما أنّهم استخفّوا بموسى (عليه السلام) ودعوته واستهزؤوا بهما، بقولهم: " اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ... " كما أنّهم أيضاً لم يعيروا التفاتاً لإقتراح الرجلين المؤمنين المذكورين في الآية، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب.
تقول الآية الكريمة في هذا المجال: " قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ "
وبديهي إنّ رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيّهم كان بمثابة الكفر، وما استخدام القرآن لعبارة «الفاسق» بحقّ هؤلاء إلا لأنّ كلمة «الفسق» لها معان واسعة، وتشمل كل خروج وانحراف عن سنة العبودية لله،
وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم، إذ استجاب الله دعاء نبيّه موسى (عليه السلام)، فحرم عليهم دخول الأرض المقدّسة، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة: " قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً "
وزادهم عذاباً إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة، حيث تقول الآية في ذلك: " يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ " .
بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إسرائيل من عذاب في تلك المدّة، كان مناسباً لما فعلوه، وتطلب من موسى (عليه السلام) أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة: " فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ " .