اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
عاشت الزهراء (ع) ثمانية عشر عاماً حيث فارقت الحياة وهي في ريعان شبابها، والمعروف أنّ الشاب يتطلع إلى الدنيا أكثر من تطلعات غيره؛ فيتشبث بمتع الحياة ويخلد إلى النوم والراحة.
ولكن عندما ينمو الإحساس الرسالي والديني في الشاب فإنّ لذلك أهميته، يقول الرسول الأكرم : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العدل، وشاب نشأ في عبادة الله،..".
وكانت الزهراء في هذا المنطلق الأسوة الحسنة لفتياتنا لما عرفت به من بعد ديني وعبادي في كثرة عبادتها وتهجدها وقياهما في الليل وصيامها في النهار، فكانت صورة ناطقة للحقيقة المحمدية.
لقد كانت الزهراء تعي معنى القرب من الله وقيمة التضرع بين يديه والبكاء من خشيته، وهذا ما جعلها تعيش الروحانية كأصفى ما تكون، لأنّ العبادة حالة يعيش فيها الإنسان عمق الإخلاص والمحبة لله سبحانه.
يقول الحسن البصري: "ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورمت قدماها".
ويصف الإمام الحسن(ع) ناحية من عبادة أمه(ع) فيقول: "رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة وساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار".
ونحن نعلم أنّ هذه العبادة الثقيلة ما كانت ناتجة عن فراغ وعدم تحمل مسؤولية، بل كانت (ع) تنوء بالمسؤوليات، فهي تدير بيتها، وتربي أولادها مما يلزمها المتابعة والاهتمام، واهتمامها بأبيها وما تغدقه عليه من حب وحنو، ومراعاة شؤون ابن عمها، إضافة إلى اهتماماتها بشؤون وقضايا المسلمين.
ولقد رأى الأب الشفوق ما تنوء به ابنته من مسؤوليات، فجلب إليها خادمة تعينها على بيتها. ومع كل ذلك فقد كانت تنظر إلى أنّ هذه الخادمة إنسان متكامل الحس والشعور، لها كيانها، فكانت تتعامل معها بلطف بحيث تقتسم معها العمل، يوم لها ويوم لخادمتها.
رغم مسؤولياتها إلا أنّها ضربت أسمى التوجه العرفاني لله عز وجل، ولقد كان ذلك سبب بعدها عن عالم العبث وترديد الكلام الفارغ، ومنع نفسها عن الملذات والمشتهيات والتعشقات الحيوانية، فإنّ نفسها مضيئة وصافية، وحياتها خشوعاً في ذات الله ورهبة من عقابه.
فكانت(ع) تقف كثيراً عند قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فتكررها مما تسبب في ورم رجليها.
وسمعت يوماً أباها وهو يتحدث عن النار حتى أتى على قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ ، سقطت على وجهها وهي تقول: الويل ثم الويل لمن دخل النار.فمن غاص في تمثلات نفس الزهراء يجد أنّ جميع هذه التمثلات هي نوع من إدراكها وبصيرتها، ولقد كان لهذه التمثلات حضور قوي في أن تتجسم هذه التمثلات في صورة ناطقة دبر كل صلاة في صورة تسبيح روحي عرف بتسبيح الزهراء .
يقول الإمام الباقر(ع) : "إنّ رسول الله(ص) قال لفاطمة(ع) : يا فاطمة إذا أخذت مضجعك من الليل فسبّحي الله ثلاثاً وثلاثين، واحمديه ثلاثاً وثلاثين، وكبريه أربعاً وثلاثين، فذلك مائة هي أثقل في الميزان من جبل أحد ذهباً".
ويقول الإمام الصادق(ع) : "مَن سبّح تسبيح فاطمة الزهراء قبل أن يثني رجليه من صلاة الفريضة غفر الله له، ويبدأ بالتكبير".
فمن عرف حقائق وأسرار التكبير والتحميد والتسبيح، وسافر من ظاهرها إلى بطنها يقف الإنسان على خزائن من الحقائق في تنزيه الله وتقديسه، مما يساعد ذلك على رفع الغفلة عن الإنسان، واثبات الهوية الإلهية، ولهذا كان تسبيح الزهراء أحبّ إلى الإمام الصادق من صلاة ألف ركعة في كل يوم.
وليس هذا بمستغرب فإنّ سورة التوحيد ـ مثلاً ـ تعدل ثلث القرآن، لأنّ البعد المعنوي لهذه السورة المباركة والحقائق الإلهية التي تحتويها حقيق بها أن تعادل ثلث القرآن.
يقول الإمام السجاد : "إنّ الله عز وجل علم أنّه يكون في آخر أقوام متعمقون فأنزل الله عز وجل قل هو الله أحد الله الصمد".لقد كان في لسان الزهراء نور فائض، تسافر به إلى ديار ملكوت المفارقات والمراسلات وخزائن الحقائق عبر أدعيتها العرفانية ومنها: دعاء النور، ودعاء الحريق، ودعاء الفرج، ودعاء المهمات، وغيرها.
وروى الطبري بإسناده عن زيد بن علي، عن آبائه، عن فاطمة بنت النبي قالت: سمعت النبي يقول: إنّ في الجمعة لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عز وجل فيها خيراً إلا أعطاه، قالت: فقلت: يا رسول الله أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلّى نصف عين الشمس للغروب .. قال: وكانت فاطمة تقول لغلامها: اصعد على السطح فإن رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فأعلمني حتى أدعو".
2 ـ زهدها:
لا حاجة لي أن أقف طويلاً عند هذه النقطة، ولكن هناك نقطة حيوية في زهد الزهراء ؛ فهي الفتاة المقبلة على الحياة الوادعة، المقدمة على تأثيث بيت الزوجية، ومن يقرأ قصة هذا التأثيث يدرك أي زهد وصلت إليه الزهراء ، ولقد فصّلت الروايات كثيراً في لوازم هذا التأثيث والذي لم يزد عن سبعة عشر شيئاً بثمن قدره ثلاثة وستون درهما.
وكان في هذا الجهاز البسيط قميص جديد أعطته فاطمة إلى إحدى المستضعفات من المسلمات لتبقى هي على قميصها القديم، وتذهب به إلى دار زوجها، وسألها أبوها عن ذلك، فأجابت : "ألم يقل الله تعالى: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )".
كان زهدها مدرسة للرساليين السائرين على نهج الأنبياء، فكما أننا بحاجة إلى المسائل المادية، نحن بحاجة أيضاً إلى المسائل الروحية، ولا يمكننا أنّ نؤمن بهذا الجانب إلا حينما نرد الظلم عن المظلومين، أو نفرّج كربة عن أحد المكروبين.
لقد كانت الزهراء ترتدي شملة أو عباءة مرقعة مع أنّها وهبت فدكاً للمساكين والمحتاجين يتنعمون في خيراته، فأي عظمة توازي عظمة الزهراء ؟ إنّها بحق الأسوة والقدوة للعالمين.
ذهب أحد التجار إلى آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر، وكانت امرأته ترافقه، فدخل التاجر إلى حجرة السيد الصدر بينما ذهبت امرأته إلى داخل الدار لتلقي زوجة السيد الصدر. طرقت زوجة التاجر باب حجرة النساء لتخرج إليها زوجة السيد الصدر، وما إن رأت زوجة التاجر قِدَم ملابس زوجة الشهيد وبساطتها حتى ظنت أنّها الخادمة، عندها قالت: هل السيدة موجودة ؟ إنّ لي معها عملاً مهماً، حينها بان الخجل والحياء على محيا زوجة السيد الشهيد وفهمت الموضوع فأجابت بالنفي، فرجعت زوجة التاجر أدراجها من حيث أتت.
وبعد أن ذهب التاجر، دخل السيد الصدر إلى زوجته فرآها فد بان عليها عدم الارتياح؛ فسألها عن السبب؟
فقالت: إنّ زوجة التاجر ظنت بأنني الخادمة، لذا نفيت أن تكون السيدة التي تعنيها موجودة، خجلاً وحياء.قال السيد الصدر: أجل إنّك لست بسيدة، فالسيدة هي التي كانت عباءتها ذات رقعات كثيرة، بالرغم أنّ أرضها المسماة فدكاً ينعم فيها الفقراء والمساكين.