اللهم صل على محمد وآل محمد الهداة المهديين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين في دعاء مكارم الأخلاق: «اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها».
الدعاء ومكانته في التعاليم الإسلامية
لقد أولت تعاليم الإسلام الدعاء أهمية كبرى، وأفردت له آيات والكثير من الأحاديث والروايات الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته .
إن تأكيد تعاليم السماء على أهمية الدعاء وضرورته في حياة المسلم، مخ العبادة كما تعبر عن ذلك الأحاديث الواردة على الرسول الأكرم وأهل البيت هو لخضوع الإنسان ومسكنته وفقره وحاجته لله سبحانه وتعالى، ولكونه مدرسة تربية تشعر المرء بالضعة والذلة أمام عظمة الله تعالى وقدرته.
فقد ورد عن الرسول قوله: «الدعاء مخ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد»2 . وقوله أيضا: «أفضل العبادة الدعاء» .
الدعاء مدرسة تربوية
• الضعف: الإنسان مخلوق ضعيف.. في بنيته وفي إمكاناته، وإن كان بإرادته قويا يمكنه أن يعمل ويطوع الكثير إذا لم يكن ذلك ضد النظام الكوني العام أو مخالفا لسنة إلهية.
ومع تمكنه من أداء الأعمال وتطويع كثيرا مما في هذا الكون لصالحه، إلا أنه يبقى ذلك الإنسان الضعيف الذي يقف عاجزا أمام كثير من المشاكل والعقبات التي يستعصي عليه حلها أو الحد منها أو تذليلها أو التخلص منها.
إن هذا الضعف وعدم القدرة على تخطي المشاكل أو ما يقع في طريقه ويعيق تحركه، هو لكون المدبر غيره، مع المحافظة على اختياره وكونه غير مجبر في تصرفاته وعمله، فهو بحاجة ماسة لتلك القوة التي ترفع عنه ما يقع عليه وما يصيبه، وتخلصه من مشاكله.
فالضعف سمة هذا الإنسان، الذي لا يستطيع دفع ما يكدر صفو عيشه وحياته. يقول تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} . ويقول أيضا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } .
هذا هو واقع الإنسان الذي لا حول له ولا قوة، ولا يمكن له أن يدفع عنه ما يقع عليه أو أن يأخذ ما ليس له.
• الحاجة: إن النقص الذي يعيشه الإنسان على جميع الأصعدة والمستويات، يشعر معه بحاجة ماسة لسد ذلك الفراغ والنقص، بما يفوق قدرته، وبمن يمتلك القدرة المطلقة على هذا الكون، والمهيمن والمتصرف الوحيد فيه.
فالعاجز يحتاج لمن يلغي ذلك العجز، والجبان يحتاج لمن يمده بالشجاعة، والجاهل يحتاج لمن يعلمه ما يجهل..الخ، فكيف بمن لا يمتلك شيئا من هذا كله، ويكون في حياته محتاجا لمن يمتلك ذلك وبقدرته أن يسلبه أو يعطيه ذلك؟!
فحاجة الإنسان إلى الله حاجة لا تنتهي باستكمال أو بتوفر ما يرغب فيه وتحققه، بل هي حاجة مستمرة دائمة باقية ببقاء الإنسان، وأصل وجوده وبقاءه في الدنيا مستمد من الله سبحانه وتعالى.
• الفقر: الفقر والمسكنة صفة هذا المخلوق، فهو يحتاج في معيشته لمن يسد ذلك الفقر، والله تعالى هو الرزاق الذي قدر للمخلوقين أقواتهم وأرزاقهم ومنحهم تلك القوة المحدودة التي من خلالها تمكنهم من أداء أعالهم وإنجازها. يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }.
التعامل الإيجابي والسلبي مع الدعاء
التعامل مع الدعاء ينقسم إلى قسمين:
التعامل السلبي.. وهو أن يقوم المرء بالتوجه للدعاء واختيار أدعية خاصة وفقرات محددة يتوجه بها إلى الله تعالى بدون أن يحرك ساكنا، أو يتحرك باتجاه البحث عن الأسباب التي تقوده نحو حل مشكلته أو تحقيق مراده.
صحيح أن الله تعالى يستجيب للإنسان في بعض الأحيان بدون توجه الإنسان نحو العمل أو السعي خلف الأسباب، ولكن ليس ذلك دائما، لأن الله تعالى يريد منا أن نعمل ونسعى.
التعامل الإيجابي.. وهو أن يدعو المحتاج بأنواع مختلفة من الدعاء أو فقرات خاصة، لتحقيق هدفه من خلاله، مع تأكيده على جانب العمل والسعي خلف الأسباب والمعطيات وفق الظروف المتاحة لتحقيق غايته وما يطلبه.
هذان هما نوعي الدعاء أو قسمي الدعاء.. معنى سلبي والآخر إيجابي، يحرك الإنسان ويدفعه باتجاه العمل والحركة.
إن الدعاء بمفهومه ليس مجرد كلمات تخرج من فم الإنسان يتمتم بها في أوقات خاصة، وإنما هو عملية تربوية، تربي الإنسان على الدعاء والعمل لا ترك العمل والاعتماد على الدعاء السلبي الذي يخدره ويجعله ساكنا.
لذلك ورد عن الرسول الأكرم :«أربعة لا يستجاب لهم دعاء: رجل جالس في بيته يقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالطلب؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك؟! ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: يا رب ارزقني، فيقول له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقول: ألم آمرك بالشهادة؟!».
فحديث الرسول واضح في أن من ترك السير خلف الأسباب فإنه لا يجد استجابة لما يريد تحقيقه.
فالدعاء الإيجابي هو أن يعمل المرء ويسعى لتحقيق طموحه مع ضرورة العمل والتحرك نحو الأسباب وتوفيرها وتهيئتها، لا أن يعتمد على مجرد الدعاء بعيدا عن إتباع الأسباب.
عملية التغيير.. تنطلق من الإنسان
إن عملية التغيير الاجتماعي تنطلق من خلال التغيير النفسي لكل فرد، ولا يمكن تحقق التغيير خارجا إلا بحركة التغيير الداخلية التي تبدأ من الإنسان وبالإنسان نفسه.
يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }.
إن التوجه للدعاء وترك إتباع الأسباب، بما يتمكن منه الإنسان هو توجه سلبي بحت، لا يحقق للإنسان أهدافه وطموحه.
فإن التغيير عملية تحتاج لحراك ودفع، وإلى كثير من الجهد والعمل الدءوب لتتحقق في النفس عملية التغيير والتطوير، أما إذا بقى في حيز السكون والاتكال على الدعاء بمعناه السلبي فإنه في الغالب لا يكون هناك نتائج متوقعة أو استجابة للدعاء، وذلك لأن الله تعالى يأبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، كما يحكي لنا في قصة ذي القرنين:{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ فَأَتْبَعَ سَبَبًا !شَيْءٍ سَبَبًا}.
إن تهيئة الأسباب لا يكفي لوحده، وإنما تحتاج النتائج والانتصارات إلى إتباع الأسباب بعد تهيئتها.
وعملية التغيير كذلك تحتاج لتهيئة أسبابها والسير في ضوء تلك الأسباب للوصول إلى ما يصبو إليه الإنسان من خلال عملية التغيير تلك.
فإن ذا القرنين مع ما مكنه الله تعالى وآتاه من كل شيء سببا، فإنه لم يكتف بذلك بل اتبع تلك الأسباب لعلمه بأنه لا يمكن أن يحقق نصرا وتقدما إلا من خلال توفر الأسباب والسير على مقتضاها.
النفس منبع الخطر
يعيش الإنسان صراعا حقيقيا وتجاذبا بين متطلبات النفس وإشباعها وسمو العقل وكمالاته. فالعقل ينحو بالإنسان نحو الكمال والسمو، والنفس تجذبه نحو الغرائز والملذات والشهوات. يقول تعالى: {فَأَلْهَمَهَا! وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }.
من خلال عملية الصراع هذه يقف الإنسان على حقيقته، وقوة إرادته، وعزيمته، وإصراره على تخطي الأخطاء والذنوب، أو ضعفه وعدم قدرته على السيطرة على نفسه وكبح جماحها. ويقول أيضا في آية أخرى:{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
إن مقدرة النفس وإمكاناتها ليست ضعيفة أويسهل التعامل معها أو الاستهانة بها وبقدرتها على السيطرة على الإنسان، بل النفس تمتلك قدرة فائقة على تدمير حياة الإنسان، وزرع قناعات توافقها لديه، وهي منبع كل الجرائم والذنوب التي يرتكبها هذا المخلوق الضعيف.
يقول الإمام علي واصفاً خداع وقدرة النفس على تزيين المحرمات والأخطاء للإنسان:«النفس الأمارة المسولة تتملق تملق المنافق، وتتصنع بشيمة الصديق الموافق، حتى إذا خدعت وتمكنت، تسلطت تسلط العدو، وتحكمت تحكم العتو، فأوردت موارد السوء» .
ويقول أيضا في خداع نفس الإنسان له، حين يثق بها ويسلم لها زمامه:«إن نفسك لخدوع، إن تثق يقتدك الشيطان إلى ارتكاب المآثم». إن للنفس قدرة فائقة تفوق ما يتصوره الإنسان، وحين الاستهانة بها تورد صاحبها موارد المهالك، وتسوقه وهو لا يعلم ولا يشعر بتبعيته لها، خصوصا إذا كان قد ألغى دور عقله وتلاشى الإنذار المبكر لديه، واستخف بتعاليم وقيم ومبادئ الدين.
عندما يفتقد الإنسان آليات الاستقامة
إذا توغل الإنسان في المعصية واستهان بتعاليم السماء، وعندما يموت ضميره والذي تعبر عنه آيات القرآن الكريم بـ﴿ ولا أقسم بالنفس اللوامة ﴾، فعند ذلك تلغى من داخله آليات الصيانة والمحافظة على نفسه من الانحراف و الانجرار نحو الخطأ والذنب.
لذلك يقول الإمام زين العابدين ««اللهم خذ لنفسك من نفسي ما يخلصها، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها..»، بأن يأخذ الله تعالى الأمور السلبية التي تبعد الإنسان عن الله تعالى، وبكلمة أخرى: تزكية الله تعالى للإنسان، بأن يقتلع من قلبه كل ما يمكن أن يكون سببا لابتعاده، والإبقاء على الآليات التي تحافظ عليه، وتجعله في الطريق المستقيم، وسبيل الهدى.
إن سيطرة النفس على الإنسان تخضع حتى العقل لها، وبالتالي يصعب عليه التخلص من حبائلها ونهمها، وإذا ما تحكمت فيه فإن كل صفة أخلاقية ذميمة سوف تضرب بجذورها في أعماقه.
إن هذا الإنسان الذي تحكمت نفسه فيه، يكون كالآلة والجهاز المبرمج آلياً يدار عن بعد وبإشارات لاسلكية تهدف تدميره وتحطيم حياته.
إن في قلب كل منا نكتة صغيرة، وكلما أذنب ذنبا كبرت واتسعت رقعتها حتى تغطي على قلبه، فلا يعود يرى شيئا إلا طريق الذنب والابتعاد عن الله تعالى، والانحراف عن منهج الحق.
يقول تعالى: { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }. والرين هو الصدأ الذي يغطي القلب، ويحجبه عن الله تعالى وعن كل حقيقة.
التربية النفسية
قلنا سابقا أن النفس خطيرة قادرة على السيطرة على الإنسان، بتزيين الأخطاء له، وإقناعه بأنه على حق في موقفه وتصرفه، وأن ذلك لا يغضب الرب، وأنه تصرف لا غبار عليه، أو من خلال جعل الحق باطلا والباطل حقا وإقناعه أيضا بذلك.
إن مشكلة الإنسان هو الانجراف خلف نفسه مقتنعا بما تسوله له وتزينه، أو لقدرتها على سوقه وإلغاء دور العقل، بل وكما قلنا سابقا أن تجعل العقل في طوعها بعد تحكمها وسيطرتها عليه، فيقوم بعمل كل ما تطلبه وتفرضه عليه، كالتخطيط لما تريده منه، وتنفيذ كل رغباتها.
وفي الطرف المقابل يمكن للإنسان أن يتحكم في نفسه من خلال المداومة على جهادها وترويضها، ولكن ليس ذلك هينٌ سهل وبسيط، بل هي عملية شاقة تحتاج لبذل جهود جبارة من أجلها. يقول الإمام علي :«املكوا أنفسكم بدوام جهادها». ويضع أهل البيت خطوطا عريضة وطرقا تؤدي لترويض النفس والسيطرة عليها منها:
العزوف عن الدنيا.. يقول الإمام علي :«سبب إصلاح النفس العزوف عن الدنيا».
المسارعة في إصلاح ما فسد منها.. فإن تركها تسير وتمضي في طريق الابتعاد عن الدين وقيمه، وتوغل الإنسان في غيه بسببها يصعّب عليه حينها مهمة إصلاحها. يقول الإمام علي :«من لم يتدارك نفسه بإصلاحها أعضل دائه وأعيا شفائه وعدم الطبيب» . وبعد ذلك لا يمكن أن يفيد طبيب في مداواته.
العمل بخلاف هوى النفس وخداعها.. كما يقول الإمام علي :«إذا صعبت عليك نفسك فاصعب لها تذل لك وخادع نفسك عن نفسك تنقد لك» .
إن عملية الخداع تحتاج لحنكة وتعامل دقيق، ولكن من خلال الالتفاف على النفس، والتحكم المستمر في نزواتها، وتذكيرها بالعقاب والنار، والعزوف عن الدنيا، فإن ذلك يكون سبيلا من خلاله يمكن للإنسان أن يفرض على نفسه مسلكا في تعامله معها.
يقول الإمام علي :«إن النفس لجوهرة ثمينة، من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها» . ويقول أيضا:«من لم يسس نفسه أضاعها» . إن من طاوع نفسه، وسهل لها قياده فإنه سوف يكون أسيرا لها مقيدا بقيودها، كما يقول الإمام علي :«في خلاف النفس رشدها» . ويقول :«رأس الآفات الوله باللذات» . ويقول أيضا:«رأس الآفات الوله باللذات». ويقول :«آفة النفس الوله بالدنيا» .
بين العقل والنفس
إن تهذيب النفس، وتربيتها، وسياستها تحافظ على الإنسان من الانجراف نحو رغباتها ونزواتها، وإن تلكؤ الإنسان وتباطؤه في تربية نفسه تميل به نحو الانحدار والخسران.
إن القرآن الكريم يعطي العقل والفكر والقلب دورا بارزا في حياة الإنسان، لذلك يركز كثيرا على ضرورة التفكر والتعقل والتأمل والتدبر، لكي يستفيد من قدرة العقل على وضع خطوط حمراء لا يصح تجاوزها، فهو رسول الحق دائما ولا يمكن أن يخدع الإنسان في أية عملية.
وإذا ما استطاع عقل الإنسان من إرسال مستحثات إلى النفس ومارس عملية الإيقاظ لها، فإنها في غيها وضلالها وزيغها. يقول الإمام علي :«من لم يهذب نفسه لم يستفد من العقل».
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. والحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين.
م : سماحة الشيخ صادق الرواغة