وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
النبي يوسف(عليه السلام): الأُسوة والقدوة في العفة للشباب«١»
بقلم: الشيخ معروف ناجي البلداوي
قال تعالى: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...) (1).
إنّ قصة يوسف(عليه السلام) من القصص الجامعة للعبر في القرآن الكريم، وهي مدعاة للشباب أن يتزينوا بالعفاف، ويكرموا أنفسهم من أن يدينسوها بالرذيلة .
قال تعالى في قصة يوسف(عليه السلام): (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ... كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(2).
إنّ هذه الصورة المشرقة العالية جداً في العفة والاستعلاء على الرذيلة يجب أن تكون حاضرة في الأذهان، لاسيما أذهان الشباب .
موقف عظيم ليوسف(عليه السلام)، ودرس لكل شابٍ، بحيث برز هنا بوضوح وجلاء استعلاء الإيمان على الشهوة والمغريات. وثبات الشاب المؤمن الصادق المخلص الصابر يوسف(عليه السلام) أروع الأمثلة في الثبات ورفض المعصية مع تكاثر الدواعي التالية أمامه:
1ـ إن يوسف (عليه السلام) كان شاباً وفي بلاد غربةٍ وإنه رقيق في بيت سيدةٍ وإن المرأة هي التي طلبته: (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) والشأن في المرأة أن تكون هي المطلوبة لا الطالبة .
2ـ (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) يوحي بكثرة الأبواب في القصر، فقد غلّقتها وأحكمت إغلاقها والتشديد في اللام يوحي بإحكام الإغلاق للأبواب حتى لا يدخل منها أحد عليها، ولا يفوت عليها بسهولة أو يتخلص من كيدها .
3ـ (هَيْتَ لَكَ) طلب مغرٍ ومعناه (هلّم) أو (تهيأت لك) من أشد الإغراءات الموصلة إلى الفاحشة مما يستهوي أمراض القلوب وضعاف الإيمان وعبّاد الشهوات من الشباب.
4ـ إنها ذات منصب وضعاف الإيمان يتمنون الوصول إليه بأي وسيلة.
5ـ إنها ذات جمالٍ؛ لأن الملوك لا يتخيرون إلا النساء الجميلات، وهذا داع خطير من دعوات الشهوة والمعصية، لكن قوة الإيمان استعلت على نار الشهوة وأطفأتها، مع أن يوسف(عليه السلام) كان شاباً والشباب مَرْكبُ الشهوة .
6ـ إنه كان غريباً عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأقاربه يخشى أن يعلموا بما جرى له من سوء فيسقط من عيونهم، ويكون عاراً عليهم فإذا تغرّب زال المانع .
7ـ إنّ المرأة هي المطالبة، فيزول بعد ذلك كُلْفة تعرض الرجل لها وطلبه وخوفه من عدم الإجابة.
ينبغي للعبد إذا رأى محلاً فيه فتنة وأسباب معصية أن يفر منها ويهرب غاية ما يمكنه ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف(عليه السلام) لما راودته التي هو في بيتها فرّ هارباً يطلب الباب ليتخلص من شرّها.
المرأة غلّقت الأبواب بنفسها لتزداد اطمئناناً ثم أعربت عن رغبتها الشديدة بصراحةٍ (أقْبِلْ)، فاستعاذ بالله من شرّها. لقد أكرم الله مثواه فرفعه من قاع بئر هاوية إلى بيت عزيز مصر.
والمرأة إنّما قالت (هيت لك)، معناها في هذا الموقف إن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده، فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها، ولم يبق وراء ذلك شيءٌ تستطيعه أو تعرضه .. بدأت مِنْ ثمَّ عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها فقال يوسف: (مَعَاذَ اللهِ).
إنّ يوسف أراها أنه لم يكن خادماً عادياً، بل هو فتى ذو خطر عظيم، وشأن عظيم وإنّ الله تعالى سيختاره قبل أن تصطفيه امرأة العزيز لقضاء لبانتها وإنه أجلّ وأعظم من أن يكون خادماً لامرأة شهوانية ترضى عنه إذا هو خالف ربّه ومولاه، وتغضب عليه إذا هو اعتصم وحافظ على أخلاقه ودينه .
إنّ الواجب عند الدعوة إلى المعصية، الاستعاذة بالله من ذلك ليعصمه منها. إنّ من دخل الإيمان قلبه وكان مخلصاً لله في جميع أموره، فإن الله يدافع عنه ببرهان إيمانه وصدق إخلاصه، من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي .
(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) جزاءً لإخلاصه (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ووصفه الله سبحانه وتعالى بأجل وصف (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا) ثمّ (الْمُخْلَصِينَ) . فالمخلِصين بكسر اللام: معناه يدل على كون آتياً بالطاعات والقُربات مع صفة الإخلاص. والمخلَصين بفتح اللام: معناه يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته.
وبعد اعتراف امرأة العزيز بأنها هي التي راودته (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) قالت واعترفت (فَاسْتَعْصَمَ)(3) أي امتنع بالله وسأله العصمة.
إن يوسف (عليه السلام) وقع في هولٍ عظيم، فهتف يوسف(عليه السلام) داعياً الله العظيم الذي بيده ملكوت كل شيء أن يخلصه مما هو فيه فقال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)(4)، إنّ يوسف اختار السجن على المعصية، فهكذا ينبغي للعبد إذا اُبتُليَ بين أمرين: فعل المعصية وعقوبة دنيوية، أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة. ففضل السجنَ لأنه أخف الأمرين .
ثمرات العفة من قصة يوسف(عليه السلام) :
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)(5).
إنّ الملك لا يأتي بيوسف(عليه السلام) من السجن ليطلق سراحه، ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى، ولا ليسمعه كلمة الرضا الملكي فيطير فرحاً، كلا إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه ويجعله بمكان المستشار والنجي والصدّيق. إن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح ـ حتى المادي ـ أضعاف ما يدره التمرغ والتزيّف والانحناء .
لقد طلبه الملك خالصاً لنفسه، فلما كلمه وازداد إقتناعاً به قال (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ)(6).
وأستخلصه لنفسي: أي ليس بيني وبينه حجاب في أمورٍ خاصةٍ أو عامةٍ، فمكانته إذن من مكانةِ الملك ثابتة راسخة و(مكين أمين) على أسراره وأسرار الدولة .
على أن يوسف قد بلغ في نفس الملك مبلغاً عظيماً من المكانة والثقة والاحترام والبراءة والعفة والنزاهة ما لم يبلغه أحد من رجال الحكومة والدولة .
لقد كان يوسف مثالاً للتربية السليمة التي عاشها في كنف والديه، إذ كان أبوه يذكّره بأجداده إبراهيم وإسحاق، ليمتثل أعمالهم دائماً.
إنه كان المثل الإنساني في العفة والأمانة والصدق (7).
جيم) النبيُّ أيوب(عليه السلام) : الأُسوة في الصبر
قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(8) .
الصبر من أبرز الأخلاق القرآنية التي عنى بها الكتاب العزيز .
والصبر في اللغة: هو حبس النفس على ما يقتضيه العقلُ والشرعُ (9) .
وقد وردت مادة صَبرَ بكل مشتقاتها في القرآن الكريم مئة وبضع مرة كقوله تعالى: (...وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ...)(10) .
(1) سورة يوسف: آية 33.
(2) سورة يوسف: آية 23 ـ 24 .
(3) سورة يوسف: آية 32.
(4) سورة يوسف: آية 33 .
(5) سورة يوسف: آية 54 .
(6) سورة يوسف: آية 54.
(7) المعلمي، عبد الرحمن عبد القادر،
دروس وعظات وعبر في سورة يوسف (عليه السلام)، ص 41.
(8) سورة ص: آية 44.
(9) الأصفهاني، الراغب، مفردات ألفاظ القرآن، ص 474.
(10) سورة النحل: آية 126 ـ 127.
يتبع...