اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
ما أن يدخل الإنسان إلى عالم الدنيا حتى يبدأ في رحلة مستمرة لاكتشاف حقائق الكون والحياة، ففي اليوم الأول لا يعلم شيئا. قال تعالى: ﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ سورة النحل، آية 78.
ومع الأيام ومن خلال منافذ المعرفة يتعرف على الحقائق المرتبطة به وببني جنسه كالعقيدة والفقه والسلوك والأخلاق والسياسة والتجارة والاقتصاد، والحقائق المرتبطة بأسرار الكون والحياة.
وكلما ازداد عمر الإنسان واطلاعه وتأمله ازداد معرفة بالحقائق لذا ينبغي أن يسخر عمره في التعرف على الحقائق من خلال منهجية رصينة تعتمد الكتاب والسنة (نظرا لامتلاكهما الحقيقة كاملة) والتفكر والتأمل، والانفتاح على كل ما يخدم الوصول إلى الحقيقة كالعلم الحديث أو القديم والتجربة وما أشبه.
وهنا ينبغي أن نؤكد على أن التعامل مع الحقائق بسطحية لا يجدي نفعا، بل وكذلك إذا لم يعمل الإنسان على ترسيخها في النفس حتى تكون مرتكزات حياتية لديه.
قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) ﴾ سورة الزمر.
وينبغي أن لا نقتصر على الحقائق الدينية بل لا بد من اتساعها لتشمل كل الحقائق في مختلف جوانب الحياة. والتعاطي مع هذه الحقائق لا يجوز أن يتعامل معه بالانتقائية وإلا كان ضربا من ضروب الهوى.
2. التقوى
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ سورة لقمان، آية 33.
التقوى كنجوى، والأصل فيه وقى من وقيته أي منعته، فهي تمنع النفس عن السير فيما يخالف فطرتها فتكون بمثابة الكابح لجماح النفس تجاه الرذيلة والانحطاط والفساد والإفساد وكل ما ينبع من الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء، ولكنها أيضا تقوم بدور الدافع والمحفز نحو الحق وأداء الواجبات وعمل الصالحات.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ سورة الأعراف، آية 201.
قال السيد المدرسي "دام ظله" في تفسير من هدى القرآن: الذين تكرست في أنفسهم ملكة الالتزام بالتعاليم الإلهية وأصبح الدين بالنسبة إليهم عادة بسبب المزيد من العمل فإنهم إذا انزلقوا بسبب ضغط الشهوة فإنهم سرعان ما يتذكرون ويلتزمون بالواجبات مرة ثانية ﴿ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ حين يعودون إلى الله ترتفع عن أنفسهم غشاوة الشهوات فيبصرون حقيقة الذنب فيجتنبونه. (3)
وما دامت التقوى تقوم بدور المنبه والكابح والدافع نحو الخير فهي بالتالي طريق إلى الحكمة بل يمكن القول أن الحكمة من ثمارها.
3. الصدق مع النفس والخالق والناس
الدجل والخداع والكذب أمور تنبأ عن خساسة النفس أو وجود خلل فيها نتيجة للاضطراب والتشويش داخل النفس، وبالتالي اضطـراب فيـما ينتج عنها مـن مـواقف وأحكام وقرارات، بينما الصـدق مـع النفس
والخالق، وكذلك الصدق مع الناس تنبأ عن نفس سليمة معافاة شفافة فتكون قادرة على بعث الاطمئنان والهدوء وتبرز بشكل جلي في المواقف الصعبة وموارد الاهتزازات الاجتماعية والسياسية وغيرهما. ومن الطبيعي أن يكون الثبات الواعي في المواقف من أبرز ثمارها.
والقرآن الكريم يحدثنا عن محورية الصدق في دعوة الأنبياء إلى أقوامهم. وكمثال نذكر دعوة نبي الله هود إلى قوم عاد فبعد حوار طويل استنجدوا بالصدق لإنهاء ما هم فيه من جدال فكانت النهاية.
قال تعالى: ﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72) ﴾ سورة الأعراف.
ولكي نعزز حالة الصدق في النفس ورد النهي عن مصاحبة الكذاب والأمر بالاقتران بالصادقين.
قال الإمام السجاد(ع) لابنه الباقر(ع) : ﴿ يَا بُنَيَّ انْظُرْ خَمْسَةً فَلاَ تُصَاحِبْهُمْ وَلاَ تُحَادِثْهُمْ وَلاَ تُرَافِقْهُمْ فِي طَرِيقٍ. فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ مَنْ هُمْ عَرِّفْنِيهِمْ؟ قَالَ: إِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّرَابِ يُقَرِّبُ لَكَ الْبَعِيدَ وَيُبَعِّدُ لَكَ الْقَرِيب ... الحديث ﴾. (4)
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ سورة التوبة، آية 119.
4. التفكر في الأمور ابتداء وانتهاء
إتقان العمل والتخطيط له لا يكون بالارتجال والتسرع، بل بالتأني والتفكر والإحاطة بالمنافع والأضرار، فالبدء بالعمل ما هو إلا نتيجة لجملة من العمليات تكون نتيجتها البدء أو إيقاف التنفيذ نظرا للأهداف المرجوة منه، فمن لا يفكر في الأمور مبتدأها ومنتهاها يتجه نحو المنزلقات المؤدية إلى الخسائر وربما الهاوية.
العلامة / محمد حسن الحبيب ..
---------------
(1) قال العلامة المجلسي: ضياء المعرفة الإضافة إما بيانية أو لامية وعلى الأخير فالمراد النور الحاصل في القلب بسبب المعرفة أو العلوم الفائضة بعدها والثبات عند أوائل الأمور عدم التزلزل من الفتن الحادثة عند الشروع في عمل من أعمال الخير و كذا الوقوف عند عواقبها و أواخرها و ما يترتب عليها من المفاسد الدنيوية. بحار الأنوار، ج68، ص 173.
(2) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص 173.
(3) السيد المرجع المدرسي، تفسير من هدى القرآن ج13 ص 526. الطبعة الأولى.
(4) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص 196.