السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ونظام الولاية لم يكن خاصا بما بعد الغيبة الكبرى . واساسا لم يكن وليدة ذلك العصر ، بل كان سائدا منذ العهود الأولى لولاية النبي وأهل بيته المعصومين - عليهم السلام - ، حيث كان لكل معصوم بعض الحواريين الذين يحملون علوم ذلك المعصوم ، ويؤدون مسؤوليات كبرى في ابلاغ رسالته . فهم حجابه ونوابه وقادة حربه ورسله الى شيعته ، وفي اغلب العصور كان عدد هؤلاء واسماءهم وتميزهم عن اقرانهم كان ذلك مخفيـا عن عامة الناس ، ولكن في ظروف معينة كان الأمر ينكشف
للناس .
وهكذا تجد الامام امير المؤمنين - عليه السلام - يقول بكل ألم :
" ما ضر اخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لايكونوا اليوم أحياء ؟ يسيغون الغصص ويشربون الرَنَق . قد والله لقوا الله فوفّاهم أجورهم وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم ، أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية ، وابرد برؤوسهم الى الفجرة " ( نهج البلاغة )
ومن بعد طبقة الحواريين وخواص شيعته ، كان هناك طبقة ثانية تتمثل في الرواة والفقهاء و .. و ..
وفي عصر الامام الحسين - عليه السلام - ظهرت للعيان هذه الطبقة المختارة ، حيث استقاموا معه حتى الشهادة . وصدرت في حقهم تلك الوثيقة الرائعة ، حيث قال سيد الشهداء ابو عبد الله الحسين - عليه السلام - :
" اما بعد فاني لا أعلم اصحابا أوفى ولا خيرا من اصحابي ، ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي .. "
وفي عهد الامامين الصادقين - عليهما السلام - حيث وفر الصراع بيـن بني امية وبني العباس على السلطة ،حرية نسبية لنشر معارف القرآن، تبلـورت صيغـة الولايـة الفقهيـة فـي صورة درجات الفقهاء ، و ارجـاع
الأئمة الناس الى بعضهم .
وبالرغم من ان بعض الوكلاء خانوا الولاية عندما فتنوا بالاموال مثل ( علي بن ابي حمزة البطائني ) الذي توقف على الامام موسى بن جعفر - عليه السلام - وادعى انه الامام الغائب ، الا ان وحدة الشيعة على عهد الامام الرضا - عليه السلام - ومن بعده اعادت مرة اخرى نظام ولاية الفقهاء من بعده .
واستمر الى عصر الغيبة وحتى اليوم . اللهم بفارق ان انتخاب الوكلاء كان يتم عادة في عصر الحضور من قبل الأئمة - عليهم السلام - ، بينما يتم ذلك اليوم من قبل الناس انفسهم .
والادلة التي اقامها الشيعة على بطلان القيادة السياسية التي لاتمت الى الدين ، لا تخص عصرا دون اخر ، ولا مصرا دون مصر . فالطاغوت الذي امر الله باجتنابه ونهى عن التحاكم اليه هو الطاغوت سواء تمثل في فرعون او نمرود او حكام الجور في عصر الأئمة المعصومين - عليهم السلام - او في عصرنا ..
قال الله سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـؤُلآءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلاً * اُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيـراً } ( النساء / 51-52 )
وهكــذا الادلة القرآنية التي دلت على الالتفاف حول الفقهاء هي الاخرى لا تخص عهد الأئمة .
قال الله سبحانه :
{ فَسْأَلــُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُــرِ } ( النحل / 43-44 )
وقال تعالى:
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ( التوبة / 122 )
فالرجوع الى العلماء فيما يجهله الناس من احكام الدين واجب ، كما هو واجب على الفقهاء ان ينذروا الناس . وهكذا قال ربنا سبحانه :
{ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ اِلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } ( المائدة / 63 )
فالربانيون والاحبار هم تلك الأمة التي تتحمل اكثر من غيرها مسؤولية الدفاع عن قيم الأمة الحق .
وعندما تفاجئ الأمة قضية يجهلون حكمها في الشؤون السياسية ، مثل الحرب والسلم .. فان عليهم الرجوع الىالذين يستنبطون حكم الله ورسولـه فيـه .
قال تعالى :
{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلَى اُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } ( النساء / 83 )
وهكذا الرد الى اولي الأمر بهدف استنباط الحكم الشرعي واجب الأمة . ويبدو من الآية ان اتباع اولي الأمر انمـا هو بهدف استنباط الحكم ، وهكذا فان ابرز شرط من شروط اولي الأمر القدرة على الاستنباط . وقال الله تعالى وهو يأمـــر بطاعة أولي الأمر :
{ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } ( النساء / 59 )
ويتساءل البعض : اذا كيف اجتمع طاعة الفقهاء وطاعة الأئمة المعصومين في عصرهم ؟
والجواب : ان وجود القيادة المعصومة المنصوص عليها تغني عن قيادة الفقهاء ، ولا تلغيها .
فـاذا افترضنا عدم قدرة احد بالوصول الى القيادة المعصومـة في عصرهم ، فان واجبه الرجوع الى الفقهاء . وهكذا امر الأئمة شيعتهم ، فقد جاء في حديث :
" منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السلطان أو الى القضاة أيحل ذلك ؟ قـال - عليه السلام - : من تحاكم اليهم ... ( الى ان قـال ) قـال : ينظران الى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرض به حكما ، فاني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكـم بحكم ولــم يقبله منه فانما بحكم الله استخف ، وعلينـا رد ، و الـراد علينا كافر راد على الله وهو على حد من الشرك بالله ... "
عـن عبد الله بـن زرارة قال : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : " إقرأ مني على والدك السلام وقل له .. الى أن قال : ولو أذن لنا لعلمتم ان الحق في الذي أمرناكم ، فردوا إلينا الأمر ، وسلّموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها .. "
وهكذا جاءت أوامر الأئمة المعصومين - عليهم السلام - مطابقة مع نصوص القرآن في الاحتكام الى العلماء من رواة الأحاديث .
السيد محمد تقي المدرسي دام ظله