اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
- لا يخفى دور الشيطان اللعين في تثبيط البعض ممن تورطوا بالتوغل في المعاصي والذنوب فيما سلف من حياتهم، إذ أنه يعمل على تذكيرهم بذلك الماضي الأسود، ليبعث في نفوسهم اليأس من رحمة الله عزوجل، ويصدهم عن التحرك لتغيير واقعهم المرير، والالتفات إلى تعويض ما ضاع من العمر في الأباطيل، فما من أمر بأشد عليه من أن يخرجوا من الأوحال والمستنقعات التي كانوا فيها..
والحال بأن اليأس من الكبائر، شأنه شأن الزنا وشرب الخمر وغيره، فالإنسان بإمكانه في أي لحظة أن ينقلب على واقعه، وهو ليس بأعظم ذنباً من الحر بن يزيد الرياحي، ذلك الذي أرعب قلوب أولياء الله، من أمثال مولاتنا زينب الكبرى (ع).. ومن المعلوم أولئك السحرة الذين كانوا يمتهنون السحر الذي هو من الكبائر والموبقات، هذا فضلاً عن تجاسرهم في مواجهة نبي الله موسى (ع)، ومع ذلك فإن الله -تعالى- قد قبل توبتهم، وها نحن اليوم في المناجاة نقول: (يا قابل السحرة اقبلني)!.. فإذن، لابد من العزم والجزم على تغيير الواقع واستنزال المدد الغيبي..
- من موجبات بعث الأمل في النفوس الراغبة للوصول إلى الله تعالى، التأمل في عظيم قدرته -سبحانه وتعالى- وبديع صنعه.. من المعلوم أن الإنسان في بداية تكوينه من أقبح الموجودات وأبشعها شكلاً، وإذا به يتكامل ويتكامل، ويتحول من طور إلى طور، ليخرج لنا هذا الوجود البديع الذي لا يشبع الإنسان من النظر إليه!..
وفي عالم النبات نلاحظ كيف أن الله -عزوجل- يبعث الحياة في الأرض الميتة، وإذا بتلك البذور اليابسة تدب على وجه الأرض في غاية الحسن والجمال!..
إن رب العالمين هو الذي يحيي العظام وهي رميم، وينزل الغيث من بعد ما قنطوا، ويخرجنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئا.. فالرب الذي ينقش قدرته وجماله في عالم التكوين، قادر على أن يرسم الجمال في عالم الأرواح، ولكن هنالك فرق بين العالمين: وهو أن الجنين في ظلمات الأرحام بلسان حاله يسلم أمره إلى مولاه -عز وجل- ليصوره كيفما يشاء: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}..وكذلك النبتة في ظلمات الأرض فأنها تسأل الرب -تعالى- أن يحييها: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}..
وأما بالنسبة للأرواح فإن الأمر يختلف ، إذ أنه يحتاج إلى إرادة طوعية من الإنسان، فليتوسل بالله -تعالى- وليكثر الطلب: بأنه يا رب أنت الذي جملت هذا البدن، وجعلته في أحسن صورة، فجمل هذه الروح، فإنه لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، وكل من فيهما طوعاً لأمرك يا رب!..
- ليتعرض الإنسان إلى دائرة الجذب الإلهي، إلى ما يوجب له التفاتة المولى -جل وعلا- وعنايته، ويقدم ما يثبت حسن نيته وصدقه في رغبة القرب إليه تعالى.. إن مريم (ع) أدخلها الله -تعالى- في جاذبيته، وكفلها نبي من أنبيائه -وهو زكريا (ع)- كما تشير إليه هذه الآية الكريمة:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.. إن الأخوات الذين يشتكون من عدم وجود المربي والمرشد، لكون أغلبهم من الرجال، والنساء لا صلة لهم بمعاشرة الرجال والعلماء.. لينظروا إلى ما يقوله القرآن الكريم في شأن مريم:{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَر ْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.. إن الله -تعالى- عندما وجد مريم أهلاً لاصطفائه، هيأ لها الأسباب الموجبة للتكامل، فكان الأنبياء والأولياء يتنازعون على تربيتها، حتى خرجت القرعة باسم زكريا (ع).. ومن المعلوم أن كان عقيماً لا ذرية له، مفوضاً أمره لله -تعالى- ولم يطلب الولد، ولكنه عندما رأى مريم انفتحت شهيته: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}.. وقد استجاب رب العالمين دعوته وأعطاه يحيى، ذاك النبي العجيب، أشبه الأنبياء بسيد الشهداء (ع)، لأنه أيضاً قطع رأسه وأهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.. فكان زكريا عندما يريد أن يعظ يتأكد من خلو المجلس من يحيى ، لأنه كان يصعق في مجلس أبيه من خوف الله عزوجل.. وهكذا عوض هذا النبي العظيم..
إن السنة هي السنة،{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.. فلتتأسَ الأخوات المؤمنات بمريم، ولينظرن ماذا عملت مريم؟.. هل جاهدت في الله؟.. هل قدمت مالاً؟.. هل بنت مسجداً؟.. فمن المعلوم أن بلاءات مريم كانت في أواخر التكامل، حيث ابتلاها الله -عز وجل- بحملها بالمسيح.. ولكن أم مريم قدمت قرباناً: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}..فقد وقفت ما في بطنها لخدمة بيت المقدس قرباناً لله عزوجل،{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}.. وهنا إشارة إلى أن البعض يعتقد أن هذه الآية فيها تفضيل لجنس الرجال على النساء، وهذا خطأ.. فالمقصود أن الذكر ليس كالأنثى في الهدف الذي كانت تريده أم مريم.. إذن، أم مريم تقدمت خطوة إلى الله عزوجل، ورب العالمين بارك فيها..
- لابد لمن يريد أن يكون منسجماً في حركته إلى الله -تعالى- أن يسعى لتحقيق الحب الإلهي في قلبه، وإلا فالذي يريد أن يسافر إلى الله -تعالى- من دون هذا العنصر، فإنه كمن يريد أن يسافر بسيارة لا محرك لها!..
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.. إن الحبهو الإكسير الأعظم، هو الكبريت الأحمر، ومن وصل إلى دائرة الحب الإلهي فإن هذا الإنسان العاشق المتيم لا يحتاج إلى تحفيز، وإنما تحفيزه ذاتي باطني -في جوهره وفي باطنه- وطبيعة العاشق أنه يبحث عن معشوقه أينما كان..
وقد يقول قائل ما هو السبيل للوصول إلى الحب الإلهي؟..
هناك حب نظري، وهو الحب الذي يولد مع الإنسان وفي فطرته!.. فلو سئل أي طفل: من أحب إليك أبوك أم ربك؟.. فإن الطفل سيجيب بلا تأمل: ربي أحب إلي.. طبعاً هذا الكلام لا يصدق في الطفل، لأنه دعوى كبيرة، وكأنه يريد أن يقول: أن مقتضى الفطرة ومقتضى العقل والتكوين، أن يحب العلة أكثر من المعلول.. الإنسان يحب زوجته أكثر، أم يحب طبخها وغسيلها وكويها!.. الكلام في تحويل هذا الحب النظري إلى حب قلبي يتغلغل في شغاف القلب، بحيث ينظر الإنسان إلى فؤاده فلا يرى فيه حباً لغير الله..