اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رسول الله صلى الله وعليه وآله ... علم وعمل
الحديث عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) حديث عن الإسلام بل الإنسان,أمّا الإسلام فلأنه جامع لكل كمالات الأديان السماوية السابقة,فكل دين منها انبسطت كمالاتُه على النبي المـُرسل به,فكان كلُ نبي مرآةً حقيقيةً لكمالات دينه ورسالته, وقد جمع الإسلامُ جميعَ الكمالات السابقة وزاد عليها,وهكذا الرسولُ الذي انبسطت كلُ كمالات الإسلام بشخصه الكريم,ولذا فهو (صلى الله عليه واله وسلم) سيدُ الأنبياء والمرسلين كما أنّ دينه الإسلامَ القويمَ هو سيدُ رسالات السماء أجمعين,هذا عن كونه (صلى الله عليه واله وسلم) هو الإسلام,
وأمّا كونه الإنسانَ فذلك لأنه ظل مُرابطا على مقام أحسنية التقويم ذلك المقام المـُشار إليه بقوله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (1),فظل بكمالاته العُليا هو الأدنى من الرفيق الأعلى:( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) (2) .
فهو الأحسن وجوداً وكمالاً في دائرة الإمكان فلا يُتصوّر ما هو فوقه,وليس في الإمكان أحسن مما كان,وهو الأدنى مُطلقاً بكماله من الكمال المطلق,فكل ما دونه يستقي منه ويتشبه به,فهو الجوهر الفرد الفريد وقطب الرحى في الأصل و التوحيد, ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير,أكمل دائرة السير الكمين,و انكشف له السر الدفين . فكأنـّه كان كما شاء أن يكون,تطوفُ حولَ كماله الأفلاكُ,ويغبِطُهُ الإنس والأملاكُ .
وأحسنُ منك لم ترَ قطُ عيني * وأجملُ منك لم تلدِ النساءُ
خُلِقتَ مُـبرّءاً من كـلِ عـيبٍ * كأنك قد خُلقـتَ كما تشاءُ
هذا ما أمكن التقديمُ به لشخص الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) لنقف بعده قليلاً عند كماله العلمي وكماله العملي .
إنه رسول العلم والعمل,ما قال شيئاً إلا وقرنه بالعمل,وما عمِل شيئاً إلا وكان العلمُ بطانتَهُ وروحَهُ وقوامَه,وما كان يأمر بشيء إلا وهو فاعلُه.
جاءته جارية يوماً وسألته أن يطلب من سيدها أن يعتِقَها حيث كانت خدمةُ سيدها تشغلُها عن عبادة الله سبحانه وتعالى,فوعدها خيراً,ومرّت أيامُ دون أن يحصُل شيء,فجاءت للرسول مرة أُخرى وأعادت طلبها,فوعدها خيراً وعادت لسيدها,ثم مضت أيام أُخَر ولم يتغير شيء,فجاءته وعرضت عليه مسألتها للمرة الثالثة,فوعدها خيراً,وفي اليوم الآخر أعتقها سيدُها,فقالت له لقد طلبتُ من رسول الله أن يعتقني منك مُنذُ أيام عديدة فلِمَ أخّرت عتقي ؟!,فتعجّب الرجل وقال لها:والله ما أخبرني رسول الله بذلك إلا اليوم فجئت سريعاً لأُنفذ طلبه (صلى الله عليه واله وسلم) ,فقالت له حسناً ثم ذهبت إلى الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لتستفسر منه عن سرّ تأخير عتقها ,فأخبرها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)بأنه ما كان ليأمر بشيء ليس بفاعلِه,وأني كانت مُعسراً فجمعت مالاً وأعتقت جارية ثم طلبت من سيدك أن يعتقك, فعظُم الرسولُ بعينها ,وأثبت للعالم أنه فاعل ما يقول,وليس ذلك إلا لأنّ علمَه كان متبوعاً بالعمل .
وكيف لا يفعل ذلك وهو يتلو بينَ أيديهم قولَه تعالى:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )(3) .
ولأن سلاحه العلم وشعاره العمل فقد كانت وظيفـتُه الإلهية تزكيةَ الإنسان وتعليمَهُ,وحيث أن كلَ إنسان برأهُ اللهُ تعالى مُحتاج إلى تزكيته وتعليمه فقد كان الغير له أُمـّيين بمعنى الكلمة,وهكذا بدأت رحلة التطهير والتعليم:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )(4),فكان المنّ الإلهي به والنعمة الجزيلة بعد ضلال مبين:( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (5) .
فالرسول (صلى الله عليه واله وسلم) هو الإسلام وهو الإنسان,هو العلم والعمل,وهو الأقوم حُسنا,والأدنى(6) مقاما من ربه,بأبي أنت وأُمي يا رسول الله .
فإذا كان القدوة الأُولى لنا هو الرسول الأكرم(صلى الله عليه واله وسلم) والأُسوة بمقتضى الكمالات التي أحرزها (ص) والإرشاد القرآني لذلك بقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )(7),وبمعية قوله تعالى:( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ )(8),فإنه سوف يتعين علينا الإتباع له (صلى الله وعليه وآله وسلم) في سيرته العلمية وسيرته العملية,مع أنه (صلى الله عليه واله وسلم) كان علمه عملاً وعمله علماً,إلا أن الفاصلة في التطبيق بالنسبة لنا ركزت الفصل,فصرنا نتوق للجمع بين العلم والعمل,وربما نغفل أحيانا فنظنهما هويتين منفصلتين مع أن الصحيح فيهما الاثنينية ولكن بلحاظ أن يكون أحدهما انعكاس للآخر,فيكون العلم حركته العمل,ويكون العمل داعيَه العلم,وفي صورة الفصل يكون مصداقا لقول الإمام علي(عليه السلام):( قصم ظهري عالم متهتك وجاهل متنسك،فالجاهل يغش الناس بتنسكه،والعالم ينفرهم بتهتكه )(9),وقد أنشد في ذلك البعض:
فساد كبير عالم متهتك * وأكبر منه جاهل متنسك
هما فتنة للعالمين عظيمة* لمن بهما في دينه يتمسك
إن عملية الفصل وإلغاء صورة الانعكاس بينها مؤشر فعلي إلى خلل حقيقي في مصداقية الإتباع للرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم) الذي ـ كما أسلفنا ـ يقتضيه الداعي الفطري المركوز في الإنسان,وأعني به:حب الكمال,فضلاً عن الإرشاد القرآني لذلك .
وبمعية قوله تعالى:( فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ )(10),فإن كل إتباع في علم أو في عمل غير موافق للسيرة العلمية والعملية للرسول الأكرم (صلى الله وعليه وآله وسلم) سوف يكون ملحوقاً ومشمولاً ب (...فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) .
إن الإتباع ليس أمراً ثانوياً في حياة الإنسان عموماً والمسلم خصوصا,وإنما هو من صميم العقيدة الآمرة بإتباع النبي (صلى الله وعليه وآله وسلم),فهو ليس أمراً ترفياً أو هامشياً,وإنما هو خلاصة العقيدة ومتنها,فالمقياس الحقيقي لإسلاميتنا ومؤمنيتنا يتأثر طرداً وعكساً بمدى إتباع الرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم) علماً وعملاً .
من هنا يتبين لنا مدى خطورة الموقف,لذا ينبغي التأني في حركتنا العلمية والعملي والتحقق من مستويات متابعتنا للرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم) فيها .
ولعل من الشواهد الحية في الحركة العلمية للرسول هي تأكيداته المتواصلة على انتخاب النافع من العلم واجتناب الغث منه أو ما يُفضي إلى إلغاء أو إطفاء الجانب المعنوي في سيرنا العملي,فيكون العلم المـُتوفّر عليه مجرد جث خامدة .
عن أبي الحسن موسى بن جعفر،عن آبائه (عليه السلام) قال:( دخل رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل،فقال:ما هذا ؟ فقيل:علامة،قال: و ما العلامة ؟ قالوا:أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها،وأيام الجاهلية،وبالأشعار والعربية،فقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم):ذاك علم لا يضر من جهله،ولا ينفع من علمه )(11) .
وهنا يتعرّض الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لمصاديق عديدة قد ينفق البعض منا جُلّ عمره لتحصيلها,فيكون مُحصّلاً للمقدمة على حساب ذي المقدمة !.
وقد تجد البعض لا يفقه من القرآن وهو علامة غير إعرابه,يعرف مرفوعه ومنصوبه ومخفوضه ومجزومه ويغفل
تماماً عن الغاية من ذلك,وهكذا الحال في علوم أُخرى ذات وقع وصى كبيرين في حياتنا العلمية .
إن هذه الأمثلة اليسيرة وغيرها مما يطول المقام بذكرها تعكس بقوة صورة المتابعة للحركة العلمي والعملية للرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم),ولعل دوامة التبريرات هي مانع آخر من عدم الالتفات إلى ضآلة المتابعة .
إن انتخاب العلم النافع والالتفات إلى الجانب العملي منه شاخص عملي لمصداقية المتابعة الواجبة للرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم),وهو ضابط أساسي للجانب التقوائي في حياة المسلم.
ولا يخفى وصف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) للمتقين,حيث يُبرز فيهم خصلة انتخاب العلم النافع,يقول (عليه السلام):( ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم )(12),ومن الواضح أنه العلم النافع للبعد التقوائي فيهم,أي ما يُقربهم للطاعة ويُبعدهم عن المعصية .
إذن فالمـُتعين علينا هو تحصيل العلم النافع,العلم الذي يدعو صاحبه للعمل,ولا ريب أن العلم النافع هو العلم الداعي لمتابع الرسول (صلى الله عليه واله وسلم),ولعل من سوء طالع الإنسان أن يتعلم ما لا ينفعه في عمل,ويعمل شيئاً غير موقوف على علم ,ومن حسن الطالع أن يجمع الإنسان بين السيرين العلمي والعملي,فلا العلم الجمّ المجرد عن العمل الصحيح نافع,ولا العمل المحفوف بالجهل نافع .
لقد كانت سيرة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) هي المزج بين العلم والعمل فليكن سيرنا العلمي والعملي نبوياً محمدياً .
ولله الحمد من قبل ومن بعد ...
1 ـ التين : 4 .
2 ـ النجم : 9 .
3 ـ البقرة : 44 .
4 ـ الجمعة : 2 .
5 ـ آل عمران : 164 .
6 ـ الأدنى بمعنى:الأقرب,وفي ذلك إشارة إلى مقامه المحمود المشار إليه بقوله تعالى:( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى )... ( النجم
:9) .
7 ـ الأحزاب :21 .
8 ـ المائدة :92 .
9 ـ انظر:منية المريد:ص181 .
10 ـ يونس :32 .
11 ـ بحار الأنوار :ج1 ص122 .
12 ـ نهج البلاغة, خطب الإمام علي عليه السلام: ج2 ص161,شرح محمد عبده .
الكاتب/ الشيخ طلال الحسن