وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
●⋋قارون⋌●
هذه الايات تتحدث عن مواجهة بني إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى «قارون»، الذي كان مظهراً للثراء المقرون بالكبر والغرور والطغيان والمعروف أنّ «قارون» كان من أرحام موسى وأقاربه وكان عارفاً بالتوراة، وكان في بداية أمره مع المؤمنين، إلاّ أنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى (عليه السلام) وأماته ميتة ذات عبرة للجميع، حيث نشرح ذلك في الآيات التالية :
" إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ{76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{77} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ{80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ{81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{82} "
المفردات
يقول القرآن في شأن قارون أوّلا: "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ" وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة، ولأنّه لم يكن يتمتع بإيمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الانحراف والاستكبار يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول: "وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ". «المفاتح» جمع «مَفتَح» معناه المكان الذي يدخّر فيه الشيء كالصندوق الذي يحفظ فيه المال، وهو ما يسميه بعض التجار بـ (القاصة) فيكون المعنى: إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضّة، بحيث كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء بالتعبير القرآني (أولي القوّة) ومع ملاحظة كلمة «عصبة» التي تعني الجماعة المُتآزرة يداً بيد على الأمر المهم، يتّضح حجم الذهب والفضة والمعادن الثمينة التي كانت عند قارون، قال بعضهم: العصبة هي من عشرة رجال إلى أربعين رجلا. وكلمة «تنوء» مشتقّة من «النوء» ومعناه القيام بمشقّة وثقل، وتستعمل في حمل الأثقال التي لها ثقل ووزن كبير، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه. فلنتجاوز هذا البحث لنرى ما قال بنوا إسرائيل لقارون، يقول القرآن في هذا الصدد: "إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" ثمّ يقدمون له أربع نصائح قيّمة اُخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له: "لَا تَفْرَحْ" فالنصيحة الاُولى قولهم له: "وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ" وكان قارون رجلا ذا قدرة على الأعمال الاجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق والنصيحة الثّانية قولهم له: "وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" والآية تشير إلى مسألة واقعيّة، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيباً من الدنيا، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً، والنصيحة الثّالثة هي: "وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ" اي كما أنّ الله تفضل عليك وأحسن، فأحسن أنت إلى الناس وشبيه هذا الكلام نجده في الآية ٢٢ من سورة النور في شأن العفو والصفح، إذ تقول الآية: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" والنصيحة الرابعة والأخيرة أن لا تغرنّك هذه الأموال والإمكانات المادية فتجرّك إلى الفساد: "وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" إنّهم يجرون المجتمع إلى الفساد والانحراف والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له فأجابهم قارون بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة، "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي" وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين، فيقول: "أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا" فكأنما الله سبحانه يخاطبه: هل نسيت من كان أكثر منك علماً وأشدّ قوّة وأثرى مالا، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي؟! لقد عبّر اولو الالباب والضمائر الحيّة عن المال بقولهم لقارون: "مَا آَتَاكَ اللَّهُ"، ولكن هذا الغافل غير المؤدّب ردّ على قولهم بأنّ ما عنده من مال فهو بواسطة علمه وفي ختام الآية إنذار ذو معنى كبير آخر لقارون، جاء في غاية الإيجاز: "وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ" فلا مجال للسؤال والجواب، فالعذاب واقع لا محالة بصورة قطعيّة ومؤلمة، وهو عذاب فجائي مُدمّر فيقول القرآن: "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ". امام قومه من بني اسرائيل. والتعبير بـ «في زينته» ناطق عن هذه الحقيقة، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوته ليبدي ما لديه من زينة وثروة. هنا أصبح الناس طائفتين "قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" لكن أمام هذه الطائفة كانت طائفة اُخرى من العلماء والمتقين الورعين، سمت آفاقهم عن مثل هذه المسائل، وكانوا حاضرين حينئذ و«المشهد» يمرّ من أمامهم وكما يعبر عنهم القرآن "وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا" ثمّ أردفوا مؤكّدين "وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ" ثم يقول القرآن الكريم "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" «الخسف» هنا يعني انشقاق الأرض وابتلاع ما عليها، حدثت على مدى التاريخ عدّة مرات.. إذ تتزلزل الأرض ثمّ تنشقّ وتبتلع مدينة كاملة أو عمارات سكنية داخلها، لكن هذا الخسف الذي حدث لقارون يختلف عن تلك الموارد.. هذا الخسف كان طعمته قارون وخزائنه فحسب "فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ" فلم يخلصه أصدقاؤه، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض "وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ" لقد ثبت عندهم اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفراداً وأقواماً، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم. لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا: "لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ" فاصبحوا يقولون. فالآن نرى الحقيقة بأعيننا، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أنّ أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.
* "وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ" أي سؤال هذا الذي نفاه الله أهو في الدنيا أم في الآخرة وكيف ينسجم هذا التعبير في القرآن مع قوله تعالى: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ".