(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَـفِلِينَ17 وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَر فَأَسْكَنَّـهُ فِى الاَْرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَاب بِهِ لَقَـدِرُونَ18 فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّـت مِّن نَّخِيل وَأَعْنَـب لَّكُمْ فِيهَا فَوَكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ19 وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغ لِّلآكِلِينَ20 وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاَْنْعَـمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ21 وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ22)
التّفسير
مرّة أُخرى مع علائم التوحيد:
قلنا: إنّ القرآن تناول سبل كسب الإيمان بعد ذكر صفات المؤمنين، كما تحدّثت الآيات السابقة عن آيات الله العظيمة في وجودنا، وتناولت هذه الآيات بعدها عالم الظاهر وآفاق الكون وعظمة خلق الأرض والسموات، حيث قالت الآية الأُولى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق).
و «الطرائق» جمع «طريقة» بمعنى سبيل أو طبقة، ولو أجزنا المعنى الأوّل للطرائق، يصبح معنى الآية، أنّنا خلقنا فوقكم سبلا سبعة، ويمكن أن تفسّر بأنّها سبل مرور الملائكة، كما يمكن أن تكون مدارات لنجوم السّماء، وبحسب المعنى الثّاني للطرائق، فإنّ الآية تعني طبقات السّماء السبع.
وقد تحدّثنا عن السماوات السبع قبل هذا كثيراً، وإذا كان القصد من العدد «سبعة» الكثرة، فيكون معنى الآية أنّنا خلقنا فوقكم عوالم كثيرة من النجوم والكواكب والسيارات، وعبارة الطبقة لا تعني نظرية «بطلميوس» الذي صوّرها وكأنّها قشرة بصل الواحدة فوق الاُخرى. فإنّ القرآن لم يقصد هذا المعنى أبداً، بل يقصد بالطرائق والطبقات العوالم التي تحيط بالأرض بفواصل محدّدة، وهي بالنسبة لنا الواحدة فوق الاُخرى، بعضها قريب والبعض الآخر بعيد عنّا. وإذا كان العدد «سبعة» قد إستخدم في الآية للتعداد، فتعني الآية أنّنا خلقنا ستّة عوالم فوقكم إضافة إلى عالمكم الذي ترونه (مجموعة الثوابت والسيارات والمجرّات). وهذه العوالم لم يبلغها الإنسان حتّى الآن.
ولو دقّقنا بخارطة المنظومة الشمسية. وتفحّصنا مواقع السيارات المختلفة حول الشمس، لعثرنا على تفسير آخر لهذه الآية، هو أنّ من هذه السيارات التسع التي تدور حول الشمس، إثنان هما عطارد والزهرة لهما مداران تحت مدار الأرض، في الوقت الذي تتّخذ فيه السيارات الستّ الاُخرى مداراتها خارج مدار الأرض، وهي تشبه طبقات ستّ إحداها فوق الاُخرى. وإضافةً إلى مدار القمر الذي يدور حول الأرض تصبح المدارات سبعة، وكأنّها طبقات سبع.
وربّما يتوهّم أنّ العالم بهذه السعة والعظمة ألا يوجب أن يغفل الله تعالى عن إدارته؟
فتجيب الآية مباشرةً (وما كنّا عن الخلق غافلين). إنّ الإستناد هنا إلى مسألة الخلق، إشارة إلى أنّ قضيّة خلق الكون بنفسها دليل على علم الله تعالى بمخلوقاته وتوجّهه إليها: فهل يمكن أن يغفل الخالق عن مخلوقاته؟!
ويمكن أن تقصد الآية أنّنا نملك سبلا كثيرة لتردّد الملائكة من فوقكم، ولسنا غافلين عنكم، كما أنّ ملائكتنا مشرفة عليكم وتشهد أعمالكم.
وأشارت الآية التالية إلى أحد مظاهر القدرة الإلهيّة، الذي يعتبر من بركات السموات والأرض، ألا وهو المطر، حيث تقول: (وأنزلنا من السّماء ماءً بقدر).
أنزلنا المطر بقدر لا يغرق الأرض من كثرته، وليس قليلا بحيث لا يكفي لري النباتات والحيوانات. أجل لو إنتقلنا من البحث حول السّماء إلى الأرض لوجدنا الماء من أهمّ الهبات الإلهيّة، وأصل حياة جميع المخلوقات، وبهذا الصدد أشارت الآية إلى قضيّة أكثر أهميّة، هي قضيّة إحتياطي المياه الجوفية فتقول: (فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون).
نحن نعلم أنّ القشرة السطحيّة من الأرض تتكوّن من طبقتين مختلفتين: إحداهما نفوذية وأُخرى غير نفوذية. ولو كانت القشرة الأرضية جميعاً نفوذية لنفد المطر إلى جوف الأرض فوراً، ثمّ يظهر الجفاف بعد هطول المطر وإن إستغرق مدّة طويلة .. حيث لا نعثر على ذرّة من الماء!
ولو كان سطح الأرض من طين أحمر لبقي المطر فوق سطح الأرض وتلوّث وتعفّن وشدّد الخناق على الإنسان، وأصبح سبباً لموت الإنسان في الوقت الذي هو أصل الحياة.
إلاّ أنّ الله الرحيم جعل القشرة الأُولى من سطح الأرض نافذةً، وتليها قشرة غير نافذة تحافظ على المياه الجوفية، فتكون احتياطاً للبشر يستخرجها عند الحاجة عن طريق الآبار، أو تخرج بذاتها عن طريق العيون، دون أن تفسد أو توجّه للإنسان أقلّ أذى.
ويحتمل أن يكون هذا الماء الذي نرتوي به بعد إخراجه من أعماق الأرض من قطرات مطر نزل قبل آلاف السنين وخزن في أعماق الأرض حتّى اليوم، دون أن يتعرّض لتلوّث أو فساد.
وعلى كلّ حال فإنّ الذي خلق الإنسان ليحيا، وجعل الماء أساساً لحياته، بل أكثرها أهميّة، خلق له مصادر كثيرة من هذه المادّة الحيوية وخزنها له قبل أن يخلقه! وبالطبع هناك إحتياطي من هذه المادّة الحيوية فوق قمم الجبال (على شكل ثلوج). تراه يذوب خلال السنة وينحدر إلى السهول، وقسم آخر لا زال فوق قمم الجبال منذ مئات بل آلاف السنين، ينتظر الأمر بالذوبان على أثر تغيير حرارة الجو لينحدر إلى السهول والوديان ليروي الأرض ويزيل العطش عنها.
وبملاحظة حرف الجر «في» في عبارة «في الأرض» يبدو لنا أنّ الآية تشير إلى مصادر المياه الجوفية وليس السطحية.
وتشير الآية التالية إلى الخير والبركة في نعمة المطر، أي المحاصيل الزراعية الناتجة عنه فتقول: (فأنشأنا لكم به جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون). فمضافاً إلى التمر والعنب اللذين يعتبران أهمّ المحاصيل الزراعية فانّ فيها أنواع أُخرى من الفواكه كثيرة.
ولعلّ عبارة (ومنها تأكلون) إشارة إلى أنّ محاصيل هذه الجنّات ذات الخيرات الواسعة لا تنحصر بالفواكه المأكولة فقط، وأنّ المأكولات تشكّل قسماً من خيراتها، فهذه البساتين (ومنها بساتين النخيل) لها فوائد كثيرة أُخرى لحياة الإنسان، حيث يصنع الإنسان أوراقها حُصُراً يجلس عليها، وأحياناً يصنع منها لباساً لنفسه، ويعمل من أخشابها منازل لسكناه.
ويستخرج دواءه من بعض جذورها وأوراقها وفاكهتها. كما يستخدم الكثير منها كعلف لحيواناته، ومن أخشابها مادّة للوقود.
ويعطي الفخر الرازي في تفسيره إحتمال قصد الآية (منها تأكلون) أنّ حياتكم ومعيشتكم تعتمد على هذه البساتين، مثلما أنّ فلاناً يعتاش على العمل الفلاني، أي إنّ حياته تعتمد على ذلك العمل.
وممّا يلفت النظر من الآيات أعلاه أنّ منشأ حياة الإنسان في ماء النطفة، ومنشأ حياة النبات من ماء المطر، وفي الحقيقة ينبع هذان النموذجان للحياة من الماء. أجل إنّ حكم الله وقانونه واحد في كلّ شيء.
ثمّ تشير الآية التالية إلى شجرة مباركة أُخرى نمت من ماء المطر، إضافةً إلى بساتين النخيل والكروم والأشجار والفاكهة الاُخرى
(وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين).
ماذا يقصد بـ(طور سيناء)؟
ذكر المفسّرون لهذه الكلمة إحتمالين: الأوّل: أنّها إشارة إلى جبل الطور المعروف في صحراء سيناء. وإذا وصف القرآن المجيد شجرة الزيتون باعتبارها الشجرة التي تنمو في جبل الطور، لأنّ عرب الحجاز كانوا يمرّون بهذه الأشجار المباركة عندما كانوا يتوجّهون إلى الشمال، حيث تقع منطقة الطور في جنوب صحراء سيناء كما يدلّ على ذلك موقعها الجغرافي بوضوح.
والإحتمال الثّاني: طور سيناء ذات جانب وصفي يعني الجبل ذي الخيرات، أو الجبل ذي الأشجار الكثيرة، أو الجبل الجميل (لأنّ «الطور» يعني الجبل، و «سيناء» تعني ذات البركة والجمال والشجر).
وكلمة «صبغ» تعني في الأصل اللون، وبما أنّ الإنسان يلوّن خبزه مع المرق، لهذا أُطلق على جميع أنواع المرق اسم الصبغ. وعلى كلّ حال فكلمة «الصبغ» ربّما تكون إشارة إلى زيت الزيتون الذي يؤكل مع الخبز، أو أنواع الخبز مع المرق الذي يحضر من أشجار أُخرى.
وهنا يواجهنا سؤال: لماذا أُكّد على ثلاث فواكه هي: التمر والعنب والزيتون؟
في الجواب على ذلك لابدّ من الإهتمام بمسألة علميّة، هي أنّ علماء التغذية أكّدوا أنّه من النّادر أن نجد فاكهة مفيدة لجسم الإنسان بقدر فائدة هذه الفواكه الثلاثة.
فلزيت الزيتون أهميّة فائقة في إنتاج الطاقة وبناء الجسم، لأنّ الحرارة الناتجة عن تناوله كبيرة، وهو صديق حميم للكبد، ويزيل أمراض الكلية ويحميها، ويقوّي الأعصاب، وأخيراً يعتبر إكسير السلامة.
أمّا التمور فقد وصفت بدرجة لا يسعها هذا الموجز، فسكّرها من أفضل أنواع السكّر وأسلمها، ويرى عدد كبير من خبراء التغذية أنّ التمور من الأسباب التي تحول دون الإصابة بالأمراض السرطانية، حيث كشف العلماء في التمور ثلاث عشرة مادّة حيوية، وخمسة أنواع من الفيتامينات، وبهذا تعتبر مصدراً غنيّاً بالمواد الغذائية.
أمّا الأعناب فتعبّر ـ كما يراه بعض العلماء ـ صيدلية طبيعيّة، فخواصها تشبه حليب الاُمّ، وتولّد طاقة حرارية في الجسم تعادل ضعف ما تولده اللحوم، وتصفّي الدم، وتدفع السموم عن البدن، وتمنح فيتاميناته الإنسان قوّة وطاقة مثلى
بعد بيان جانب من أنعم الله في عالم النبات التي تنمو على المطر، يلي ذلك بحث جانب مهمّ من أنعم الله وهباته في عالم الحيوان (وإنّ لكم في الأنعام لعبرة).
ثمّ تشرح الآية «العبرة» فتقول: (نسقيكم ممّا في بطونها). أجل إنّ الحيوان يدرّ حليباً لذيذاً يعتبر غذاءً كاملا، ويمنح الجسم حرارة كبيرة، ويخرج الحليب من بين الدم على شكل دفعات كما ينزف الدم، لتعلموا قدرة الله حيث يتمكّن بها من خلق غذاء طاهر لذيذ من بين أشياء تبدو ملوّثة.
ثمّ تضيف الآية (ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) إضافة إلى اللحم الذي يعتبر من أجزاء الغذاء الرئيسيّة التي يحتاجها الجسم، يستفاد من جلود الحيوان في صنع اللباس والخيم القويّة ذات العمر الطويل. كما يستفاد من صوفها في صنع الملابس والفرش والأغطية. ويصنع من أجزاء بدنها الدواء، ويستفاد حتّى من روثها لتسميد الأشجار والنباتات.
كما يستفاد من الحيوانات في الركوب في البرّ، والسفن في البحر (وعليها وعلى الفلك تحملون).
كلّ هذه الخصائص والفوائد في الحيوان تعتبر ـ حقّاً ـ عبرة لنا، تعرف الإنسان على ما خلق الله من أنعم، كما تثير فيه الشعور بالشكر والثناء على الله.
السؤال الوحيد المتبّقي هو: كيف أصبحت الدواب والسفن في مستوى واحد؟
إذا لاحظنا مسألةً واحدة فسيكون الردّ واضحاً، وهي أنّ الإنسان بحاجة إلى مركب في حياته، مرّةً في البر، وأُخرى في البحر وهي السفن.
وهذا التعبير هو ذاته الذي إستخدم في الآية من سورة الإسراء حين ذكر ما وهبه الله بني آدم (وحملناهم في البرّ والبحر).
تفسير الأمثل