اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مقدمة :
إنّ الإمام علي بن أبي طالب (ع) أشهر من أن يعرّف، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه، وخطبه، وقصار كلماته، وسياسته، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال، واحالة القارئ الى تلك الموسوعات، بيد أنّا نكتفي هنا بذكر اوصافه الواردة في السنّة فنقول:
هو أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين، وأوّل القوم ايماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأعظمهم مزيّة، وأقومهم بأمر الله، وأعلمهم بالقضية، وراية الهدى، ومنار الإيمان، وباب الحكمة، والممسوس في ذات الله، خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الهاشمي، وليد الكعبة المشرّفة، ومُطهِّرها من كل صنم ووثن، الشهيد في البيت الإلهي (جامع الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة 40 هجري.
وكل جملة من هذه الجمل، وعبارة من هذه العبارات، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من اهل السنّة(راجع مسند احمد 1 / 331، 5 / 182 _ 189، حلية الأولياء 1 / 62 _ 68، ولاحظ الغدير 2 / 33.).
الإمام علي ومكوّنات الشخصية:
تعود شخصية كل انسان - حسب ما يرى علماء النفس - إلى ثلاثة عوامل هامّة لكل منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها.
وكأنّ الشخصية الإنسانية لدى كل انسان أشبه بمثلث يتألّف من اتّصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض، وهذه العوامل الثلاثة هي:
1 _ الوراثة.
2 _ التعليم والثقافة.
3 _ البيئة والمحيط.
إنّ كلّ ما يتّصف به المرء من صفات حسنة او قبيحة، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق.
وانّ الأبناء لا يرثون منّا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم، بل يرثون كل ما يتمتّع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك.
فالأبوان _ بانفصال جزئي «الحويمن» و«البويضة» المكوّنين للطفل منهما _ إنّما ينقلان _ في الحقيقة _ صفاتهما ملخّصة الى الخلية الاُولى المكوّنة من ذينك الجزأين، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.
ويشكّل تأثير الثقافة والمحيط، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية، فإنّ لهذين الأمرين أثراً مهمّاً وعميقاً في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبلية او المتواجدة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين.
فإنّ في مقدور كل معلّم ان يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي اليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار، فكم من بيئة حوّلت أفراداً صالحين الى فاسدين، أو فاسدين الى صالحين.
وإنّ تأثير هذين العاملين المهمّين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح. على أننّا يجب أن لا ننسى دور ارادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة.
الإمام علي (ع) والجانب الموروث في شخصيته:
لم يكن الإمام علي _ عليه السلام _ كبشر بمستثنى من هذه القاعدة.
فقد ورث الإمام أمير المؤمنين _ عليه السلام _ جانباً كبيراً من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة، وإليك تفصيل ذلك:
1 _ الإمام علي (ع) والوراثة من الأبوين:
لقد انحدر الإمام علي من صلب والد عظيم الشأن، رفيع الشخصية هو أبو طالب، ولقد كان أبو طالب زعيم مكّة، وسيّد البطحاء، ورئيس بني هاشم، وهو إلى جانب ذلك، كان معروفاً بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبّة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدّس، والعقيدة التوحيديّة المباركة.
فهو الذي تكفّل رسول الله مند توفّي عنه جدّه وكفيله الأوّل عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره، وتولّى العناية به والقيام بشؤونه، وحفظه وحراسته في السفر والحضر، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ويقوم في سبيل ارساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء، ويتحمّل لتحقيق هذه الأهذاف العليا كل تعب ونصب وعناء.
وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلّى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله:
ليعلم خيار الناس أنّ محمداً *** نبيّ كموسى والمسيح ابن مريم
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً *** رسولاً كموسى خط في أوّل الكتب .( مجمع البيان 4 / 37 )
إنّ من المستحيل أن تصدر امثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعاً في الشعب ومقاطعتهم القاسية من دافع غير الايمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية، الذي كان يتّصف به أبو طالب، إذ لا تستطيع مجرّد الوشائج العشائرية، وروابط القربى، أن توجد في الإنسان مثل هذه الروح التضحوية.
إنّ الدلائل على ايمان أبي طالب بدين ابن اخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كل المحقّقين المنصفين والمحايدين، ولكن بعض المتعصّبين توقّف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة، بالدعوة المحمدية، بينما تجاوز فريق هذا الحد الى ما هو أبعد من ذلك، حيث قالوا بأنّه مات غير مؤمن.
ولو صحّت عُشر هذه الدلائل الدالة على ايمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث، في حقّ رجل آخر لما شكّ أحد في ايمانه فضلاً عن إسلامه، ولكن لا يعلم الإنسان لماذا لا تستطيع كل هذه الأدّلة إقناع هذه الزمرة، وإنارة الحقيقة لهم ؟!.
هذا عن والد الإمام أمير المؤمنين (ع)
وأمّا اُمّه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كانت قبل ذلك تتّبع ملّة إبراهيم.
إنّها المرأة الطاهرة التي لجأت - عند المخاض - إلى المسجد الحرام، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول:
«يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم وانّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و(بحق) المولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليّ ولادتي».
فدخلت فاطمة بنت اسد في الكعبة ووضعت عليّاً هناك(كشف الغمة 1 / 60)
وتلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرخين والمحدّثين الشيعة، وكذا علماء الأنساب في مصنّفاتهم، كما نقلها ثلّة كبيرة من علماء السنّة وصرّحوا بها في كتبهم واعتبروها حادثة فريدة، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل(مروج الذهب 2 / 349، شرح الشفاء للقاضي عياض 1 / 151 وغيرهما، وقد أفرد العلامة الاردوبادي رسالة في هذه المنقبة وسمّاها: علي وليد الكعبة.).
وقال الحاكم النيسابوري: وقد تواترت الأخبار انّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة ( شرح عينية عبد الباقي أفندي العمري 15)
وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي: «وكون الامير كرم الله وجهه، ولد في البيت، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه، كما اشتهر وضعه . الغدير 6 / 22
الإمام علي والتربية في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأمّا التربية الروحية والفكرية والأخلاقية فقد تلقّاها علي _ عليه السلام _ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.
ولو أنّنا قسّمنا مجموعة سنوات عمر الإمام _ عليه السلام _ إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الأوّل من هذه الأقسام الخمسة من حياته الشريفة، يشكلّ السنوات التي قضاها _ عليه السلام _ قبل بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وانّ هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات، لأنّ اللّحظة التي ولد فيها علي _ عليه السلام _ لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك، هذا مع العلم بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث بالرسالة في سنّ الأربعين.
وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام علي _ عليه السلام _ قد تجاوز السنة العاشرة من عمره يوم بعث رسول الله (ص) بالرسالة، وتوّج بالنبوّة.
إنّ أبرز الحوادث في حياة الإمام علي _ عليه السلام _ هو تكوين الشخصية العلوية، وتحقّق الضلع الثاني من المثلّث الذي أسلفناه بواسطة النبيّ الأكرم وفي ظلّ ما أعطاه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي (ع) من أخلاق وأفكار، لأنّ هذا القسم في حياة كل انسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة، والقيمّة جدّاً، فشخصية الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقيّة تقبل كل لون وهي مستعدّة لان ينطبع عليها كل صورة مهما كانت، وهذه الفترة من العمر تعتبر - بالتالي - خير فرصة لأن ينمّي المربّون والمعلّمون فيها كلّما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيّبة وصفات كريمة، وفضائل أخلاقية نبيلة، ويوقفوا الطفل - عن طريق التربية - على القيم الأخلاقية والقواعد الإنسانية وطريقة الحياة السعيدة، وتحقيقاً لهذا الهدف السامي تولّى النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه تربية علي (ع) بعد ولادته، وذلك عندما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها علي (ع) إلى رسول الله (ص) فلقيت من رسول الله حبّاً شديداً لعلي (ع) حتى أنّه قال لها:
اجعلي مهده بقرب فراشي وكان صلى الله عليه وآله وسلم يطهّر علياً في وقت غسله، ويوجر اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويلاحظه ويقول: هذا أخي، ووليّي وناصري وصفيّي وذخري وكهفي، وصهري، ووصيّي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيّتي وخليفتي . كشف الغمة 1 / 60
ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي ان يتم توفير الضلع الثاني في مثلّث الشخصية (وهو التربية) بواسطته صلى الله عليه وآله وسلم وان لا يكون لاحد غير النبي (ص) دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.
وقد ذكر الامام علي (ع) ما أسداه الرسول الكريم اليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة اذ قال:
وقد علمتم موضعي من رسول الله (ص) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمّني الى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه . نهج البلاغة - شرح عبده -2 / 182 الخطبة القاصعة.