اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
وها هو الآن يوشك أن يسلمه أغلى شيء عنده وأعز مخلوقة عليه، ثمّ يقول: ما حاجة ابن أبي طالب وما الذي يشغل فكرك يا ابن العم؟ وكانت هذه الكلمات الرحيمة هي التي شجعت أبن عم الرسول على أن يقول بصوت خفيضٍ وهو يغض بصره أمام رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: ذكرت فاطمة بنت رسول الله، ثمّ يسكت ولا يقوى على الإفاضة أكثر مما قال، فيجيبه الرسول وهو على ما عليه من بشر ورقَّةٍ لا متناهية مرحباً وأهلاً. ويسكت لحظة ليعود فيسأله حدباً مشفقاً وهل عندك شيء؟ فيجيبه علي وهو لا يزال مغضٍ ببصره إلى الأرض، لا يا رسول الله. فيمسك الرسول لحظة ثمّ يتذكر أن علياً أصاب درعاً من مغانم بدر فيعود ليسأله أين درعك الذي أعطيتك إياه يوم كذا؟ فيجيب علي وقد غلبه التأثر لما يلقى من بِرِّ النبي ورعايته وما يلمس من روح ابن عمه وصفائها وهو يعلم أنه جاء يخطب إلى النبي (ص) فاطمة التي هي أعز مخلوقة عند رسول الله، فيجيب: هي عندي يا رسول الله. فيقوم النبي صلوات الله عليه ثمّ يدخل على أبنته الغالية ليرى رأيها فيما يطلبه أبن عمه وأخوه ويقول لها متلطفاً رفيقاً باراً: يا عزيزة أبيها الغالية لقد ذكرك أبن عمك علي فما رأيك في هذا يا بنتاه. والزهراء كانت تعرف ابن عمها علياً، وتعرفه كما لا يعرفه غيرها من الناس.
فهو سيف أبيها ودرعه والفادي له بنفسه، والبائت على فراشه، وحامل لوائه. هذا عدا أنها كانت تسمع دائماً مدحه والإعجاب فيه من رسول الله (ص). وكانت تشعر دائماً وأبداً أن أبن عمها علياً هو أقرب المسلمين للرسول وأحبهم إليه وهي الآن على ثقة من أن رسول الله (ص) راغب في هذا محبذ له، وإلاّ فما كان ليسألها عن رأيها فيه، فما أكثر ما خطبت الى أبيها قبل اليوم وكان يردهم دون أن يسألها عن رأيها في الخطاب. وعلى هذا ولكونه جاء ليرى رأيها في علي بن أبي طالب، عرفت الزهراء صلوات الله عليها رأي أبيها في علي وفي هذه الخطبة؛ ولكنها مع هذا تسكت ولا تتمكن أن تجيب، فما عساها أن ترد على رسول الله (ص) وحياؤها العذري يمنعها من التصريح بما تريد، ورضاؤها بهذا الخاطب وقبولها لهذه الخطبة يمنعانها من الرفض فتطرق إلى الأرض ولا تجيب. والرسول (ص) في كل هذا يتطلع إليها ويقرأ ما ينطبع على ملامحها من أحاسيس وأنفعالات ويشعر أنها راضية، ويحس أنها مرتاحة مسرورة فيقوم وهو متهلل الوجه، باسم الثغر ويقول: سكوت الباكر علامة رضاها، فلا ترد عليه ولا تعترض. فيبتسم ويخرج إلى أبن عمه ليخبره برضاء الزهراء ويقول له: أين الدرع يا علي؟ فيذهب علي مسرعاً ويأتي بالدرع فيأمره النبي أن يبيعها ليجهز العروس بثمنها. وقد أشتراها عثمان بأربع مائة وسبعين درهماً حملها علي صلوات الله عليه ووضعها أمام الرسول، فتناولها بيده الكريمة ثمّ دفعها إلى بلال ليشتري ببعضها طيباً وعطراً ويدفع الباقي إلى أم سلمة لتشتري جهاز العروس. ثمّ يجمع النبي صحابته وآله ويشهدهم أنه زوج ابنته فاطمة من أبن عمه علي بن أبي طالب على أربع مائة مثقال من الفضة على السُّنة القائمة والفريضة الواجبة ثمّ قدم للضيوف حلوى العرس الهاشمي النبوي وهو وعاء تمر.
على هذا النمط البسيط وعلى هذا النحو القدسي تمت خطبة الزهراء بنت رسول الله إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وتأخر الزفاف إلى الوقت الذي يتم فيه جهاز العروس ويهيأ بيت العريس.
نعم هكذا بكل بساطة تمت خطبة أعظم خطيبين. فالزهراء عندما خطبت لابن عمها لم تكن تفكر في شيء مما يشغل أفكار غيرها من العرائس. لم تكن تهتم بما يملك عريسها من مال وما يهيأ لها من أثاث ورياش. لم تكن تحفل بالسفاسف من الأمور كأن تكون خطبتها رسمية عامة شاملة تعمر بالترف والبذخ. لم تكن تحفل بكل هذه الأمور الدنيوية فهي أبنة رسول الله وابنة خديجة الكبرى.
أوليست أمها هي التي بذلت المال رخيصاً في سبيل العقيدة؟ أوليست أمها هي التي استبدلت القصر الشامخ بالبيت المتواضع والترف الزاهي بشظف العيش ومره؟
وها هي أبنتها فاطمة تُخطب إلى علي أمير المؤمنين بهذه الروعة اللامتناهية التي كونتها هذه البساطة في الخطبة. فالإمام علي كان يخطب شخص الزهراء بنت رسول الله، والزهراء صلوات الله عليها قبلت بالزواج حباً بعلي وبشخصه لا غير. فلولا أن خاطبها كان غير علي بن أبي طالب لما رضيت أن تفارق أباها وبيته إلى أي زوج كان، ولكنها كانت تعلم أنها بزواجها من علي بن أبي طالب تتقرب إلى أبيها وإلى رسالته أكثر منها قبل الزواج، وأنها إذا قرنت حياتها بحياة علي تمكنت أن تسند علياً بجهادها الإسلامي وأن تركز جهاد أبن عمها بمؤازرتها له. ولذلك فقد تلقت عرض الزواج بكل ارتياح.
وإني لأعجب لما كتبته الدكتورة بنت الشاطيء في كتاب بنات النبي، وما عللت فيه رضاء الزهراء بعلي بن أبي طالب وما بينته في أسلوب هو أقرب الى الخيال القصصي منه إلى الواقع. فقد عزت الدكتورة بنت الشاطئ زواج فاطمة، والدافع الذي دفعها لذلك دخول عائشة في بيت النبي وفي حياته بعد أن كانت الزهراء معرضة عن الزواج في إصرار، وهذه الفكرة القصصية الخيالية كان من الممكن فرضها على عائلة غير عائلة رسول الله وعلى أسرة غير أسرته صلوات الله عليه، كأن تأتي الدكتورة لتحدثنا حديث أسرةٍ عادية مكونة من أب وأربعة بنات وأم، ثمّّ تتزوج البنات الثلاث وتعرض الرابعة عن الزواج إيثاراً لصحبة أبيها عن غيره، وتموت الزوجة الأولى فتدخل في حياة الأب زوجة جديدة لا تؤثر تأثيراً بالغاً على مكانة البنت الرابعة التي كانت في البيت، ولكن الزوجة الثانية التي تدخل في حياة الأب بعد الأم الراحلة أمرأة ثانية تستهويه وتمتلكه وعند ذلك تفهم البنت الرابعة التي آثرت صحبة أبيها عن الزواج أنها لم تعد كما كانت في بيت أبيها وفي قلبه بعد أن شغلت المرأة الجديدة حياة أبيها واستمالت قلبه نحوها ولم تترك للبنت الباقية في بيت أبيها مجالاً لدلال أو رغد من العيش.
وهنا يجب أن نفترض أولاً أن رب الأسرة رجل ضعيف الشخصية ضئيل العاطفة مندفع وراء ملذاته الحسية لكي نتمكن من الإنسجام مع هذه الأقصوصة ونصدقها كما هي.
فإن أي زوج وأي أب إذا كان قوي الشخصية ولو قليلاً وإذا كان يحمل عاطفة أبوية ولو عاطفة جزئية، ايمكن لنا أن نصدق أنه يخضع لسلطان أمرأة مهما كانت تلك المرأة ومهما تمتعت به من سحر وفتنة، ولا يمكن للمرأة تلك أن تجعل بيته يضيق بابنته التي كانت حسب بداية الأقصوصة تمتنع عن الزواج حباً في أبيها وإيثاراً لصحبته.
ومن المؤكد أن بيت الأب لا يضيق بابنته إلاّ إذا ضاق الأب بابنته ولا يضيق الأب بابنته إلاّ إذا كان معدوم العاطفة مسلوب الشخصية.
عند هذا وبعد كل هذه الفروض لنا أن نصدق هذه القصة كما جاءت بها الدكتورة (كصورة من حياتهن ).
ولكن هذه الأقصوصة إذا طالعتنا بها الدكتورة وهي تنسبها إلى أهل بيت النبوة، وإلى أسرة يكون الأب فيها رسول الرحمة وتكون البنت فيها فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، ولا يمكن لنا أن نصدقها بأي حال من الأحوال. ولا يصح أن نصدقها أيضاً لما تستلزمه من فروض لا تنطبق على أهل البيت.
فنحن إذا سلمنا أن الزهراء كانت رابع بنات أربعة فيجب علينا إولاً أن نتعرف على أزواج أخواتها والسبب في عزوفها عن الزواج بعد أخواتها الأخريات، ونرى أن أختين من أخواتها قد لاقيا من المحن والاضطهاد الشيء الكثير حتى أن أزواجهما أرجعاهما إلى بيت رسول الله عداءً لهما ولرسول الله (ص).
فنحن إذا سلمنا بوجود أخوات للزهراء وجب علينا أن نسلم بزواجهن وبأزواجهن، وفي هذا دليل كافٍ نفهم منه عزوف الزهراء عن الزواج إذا صح أنها كانت عازفة كما تزوجت أخواتها بعد أن رأت بعينها المصائب التي أصابت أخواتها من هذا الزواج. وشتان بين أزواج أخواتها وبين من رضيت به زوجاً لها وقريناً. فزواج أخواتها ونوعيته أكبر مثبط لها عن قبول هذه التجربة. وخطبة الإِمام علي لها وخصوصياته أكبر دافع لها لقبول العرض بالرضاء التام.كان ذاك هو المانع وكان هذا هو الدافع لا أكثر ولا أقل. طبعاً هذا إذا سلمنا مع الدكتورة بوجود أخوات للزهراء صلوات الله عليها ثم أنها كانت تعلم أن حاجة أبيها لها وهو في مكة أكثر منها وهو في المدينة. فقد كان الاضطهاد والشرك والظلم قد خف وتلاشى في المدينة. ولما علت كلمة الإِسلام اطمأنت الزهراء على أبيها وعلى راحته النفسية ثم أنها حينما كانت ترفض الزواج كانت ترفضه لكي لا تخرج من حياة أبيها ولكي لا تبعد عن رحابه وعرينه. وزواجها بعلي كما كانت تعلم واثقة أنه سوف يقربها لأبيها ويدنيها إليه أكثر وأكثر، وأنها لن تترك بيت أبيها بل ستكوِّن لأبيها بيتاً جديداً هو بيتها الذي يضمها وابن عمها علي بن أبي طالب. وفعلاً فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ هذه الآية الكريمة كلما مر على باب فاطمة وعلي: (... إنما يُريد الله ليذهبَ عنكم الرجٌسَ أَهل البيت ويُطهَّركم تطهيراً) الآحزاب/33. صدق الله العظيم.