الغيرة أو الحمية : هي السعي في محافظة ما يلزم محافظته ، وهي من نتائج الشجاعة وكِبَر النَّفسِ وقوّتها (1) .
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ( على قدر الحمية تكون الشجاعة )
(2). وقال (سلام الله عليه) أيضاً : ( ثمرة الشجاعة الغيرة )
(3) . والغيرة هي من شرائف الملكات ، وبها تتحقَّق الرجولية ، والفاقد لها غير معدود من الرجال (4) .
وهي تُعبِّر ـ فيما تُعبِّر عنه ـ عن الاعتزاز بالشرف والكرامة ، وعن اليقظة والمروءة والنخوة ، وهذه من مثيرات الشجاعة ، ومن دواعي رفض العدوان .
ومقتضى الغيرة والحمية في الدين ، أن يجتهد المرء في حفظه عن بِدَع المبتدعين ، وانتحال المبطلين ، وإهانة مَن يستخف به من المخالفين ، وردِّ شُبَه الجاحدين ، ويسعى في ترويجه ، ولا يتسامح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومقتضى الغيرة على الحريم ، ألاَّ يتغافل عن حفظهنَّ عن أجانب الرجال ، وعن الأمور التي تُخشى غوائلها ، ويمنعهنَّ عن جميع ما يمكن أن يُؤدِّي إلى فساد وريبة .
وأما مقتضى الغيرة على الأولاد ، فأن تراقبهم من أول أمرهم ، فإذا بدأت فيهم خمائل التمييز ، فينبغي أن يُؤدَّبوا بآداب الأخيار ، ويُعلَّموا محاسن الأخلاق والأفعال ، والعقائد الحقَّة (5) .
ولأهمية الغيرة في حفظ المقدَّسات ، وسلامة الأمة وشرف كرامتها ، جاءت الآيات الكريمة والأحاديث المنيفة تُؤكَّد عليها ، وتبيِّن فضائلها ، وتدعو إليها ؛ إذ هي خُلق من أخلاق الله تبارك وتعالى ، ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين ، والأئمة الهداة المهديين (صلوات الله عليهم أجمعين) .
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) : ( ألا وإنَّ الله حرَّم الحرام ، وحدَّ الحدود ، وما أحدٌ أغير من الله ، ومن غيرته حرَّم الفواحش ) (6) . وعنه (صلَّى الله عليه وآله) أيضاً قال : ( إنِّي لغيور ، واللهُ عزَّ وجلَّ أغير مني . وإنَّ الله تعالى يُحبُّ من عباده الغيور ) (7) . والغيرة مُفْصِحة عن الإيمان ، لقول المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) : ( إنَّ الغيرة من الإيمان ) (8) .
وهي من نتائج القوة الغضبية في الإنسان ، قد تنتج مساوئ أخلاقية ... كالتهوُّر وسوء الظن والغضب المذموم ، وقد تنتج محاسن أخلاقية . . كالغضب لله تعالى ، والشجاعة والعزَّة والإباء . وقد عُرف الإمام الحسين (عليه السلام) بخُلق الغيرة ... على الدين والحريم والأولاد . وهو الذي تربَّى في ظل أغير الناس : جده المصطفى ، وأبيه المرتضى ، وأُمه فاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم) . وعاش في بيت العصمة والطهارة والنجابة ، والشرف المؤبَّد والكرامة ، ونشأ في أهل بيت لم تنجِّسهم الجاهلية بأنجاسها ، ولم تُلبسهم من مُدلهمَّات ثيابها . فالنبي (صلَّى الله عليه وآله) كان ـ كما يقول الإمام علي (عليه السلام) ـ : ( لا يُصافح النساء . فكان إذا أراد أن يبايع النساء ، أتي بإناء فيه ماء فغمس يده ، ثمَّ يخرجها ، ثمَّ يقول : أغمسنَ أيديكنَّ فيه ، فقد بايعتكنَّ ) (9) .
أمَّا ابنته فاطمة (صلوات الله عليها) ... فقد سألها أبوها (صلَّى الله عليه وآله) يوماً : ( أي شيءٍ خيرٌ للمرأة ؟ ) ، فقالت : ( أن لا ترى رجلاً ، ولا يراها رجل ) ، فضمَّها إليه وقال : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ) (آل عمران : 34) (10) .
وأما أمير المؤمنين (سلام الله عليه) ... فيكفي ما ذكره يحيى المازني ، حيث قال : كنتُ جوار أمير المؤمنين (عليه السلام) مدة مديدة ، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته ، فوالله ما رأيت لها شخصاً ، ولا سمعتُ لها صوتاً . وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ، تخرج ليلاً ، والحسن عن يمينها ، والحسين عن شمالها ، وأمير المؤمنين أمامها . فإذا قَرُبت من القبر الشريف ، سبقها أمير المؤمنين ، فأخمد ضوء القناديل ، فسأله الحسن مرةً عن ذلك ، فقال : ( أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب ) (11) .
هذه الخَفِرة عقيلة بني هاشم (سلام الله عليها) ، كان لا بد ـ من أجل إنقاذ الدين ، وفضح الجاهليين ـ أن تخرج إلى كربلاء ؛ لتُثبت أنَّ بني أمية لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة ، ولا يحفظون حرمةً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ؛ حيث أُسرت بناته في كربلاء ، وساقهنَّ أعداء الله في مسيرة وعرة إلى الكوفة ، ثمَّ إلى الشام ، في حال من الجوع والإعياء ، وأسكنَّ الخرائب مقيَّدات بالحبال .
ويأبى ذلك لهنَّ كل غيور له غيرة على الدين ، حيث لا ينقذ الدين إلاَّ في موقف يُقتل فيه حزب الله النجباء ، بيد حزب الشيطان الطلقاء ، وتُؤسر فيه بنات الرسالة ، ويُقضي الأطفال بين الجوع والعطش والهلع ، وحوافر الخيل والضياع في الصحارى . إن كل ذلك من أجل الدين ، الذي دونه الأنفس وكل عزيز .
ولقد كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أغير الناس على دين الله ، فأقدم على ما أحجم عنه غيره ، وقدَّمَ ما بَخِلَ به غيره . وقد شهدت له مواقف كربلاء : أنه الغيور الذي لم تشغله الفجائع ، ولا أهوال الطف ، عن حماسة حرم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ... .
في يوم العاشر ، وبعد أن قُتِل جميع أنصار الحسين (عليه السلام) ، وأصحابه وأهل بيته ، وقبيل الاشتباك بالآلاف ... صاح عمر بن سعد بالجمع : هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتَّال العرب ، احملوا عليه من كل جانب . فأتته (عليه السلام) أربعة آلاف نَبْلَة (12) ، وحال الرجال بينه وبين رَحْله ، فصاح بهم : (يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم . وارجعوا إلى أحسابكم ، إن كنتم عرباً كما تزعمون ) .
فناداه شمر : ما تقول يا ابن فاطمة ؟
قال : ( أنا الذي أُقاتلُكم ، والنساء ليس عليهنَّ جُناح ، فامنعوا عُتاتكم عن التعرُّض لحرمي ما دمت حيَّاً ) .
فقال الشمر : لك ذلك .
وقصده القوم ، واشتد القتال ، وقد اشتدَّ به العطش (13) . قيل : وقصده القوم من كل جانب ، وافترقوا عليه أربع فِرق ، من جهاته الأربع :
فِرقَة بالسيوف ـ وهم القريبون منه .
وفِرقَة بالرماح ـ وهم المحيطون به .
وفِرقَة بالسهام والنبال ـ وهم الذين في أعالي التلال ورؤوس الهضاب .
وفِرقَة بالحجارة ـ وهم رَجْلة العسكر ... ازدحم عليه العسكر ، واستعر القتال ، وهو يقاتلهم ببأس شديد وشجاعة لا مثيل لها (14) .
وحمل (عليه السلام) من نحو الفرات على عمرو بن الحجاج ـ وكان في أربعة آلاف ـ فكشفهم عن الماء ، وأقحم الفَرَسَ الماء ، فلمَّا مدَّ الحسين يده ليشرب ، ناداه رجل : أتلتذُّ بالماء وقد هُتِكَت حرمك ؟! ، فرمى الماء ولم يشرب ، وقصد الخيمة (15) .
وفي رواية الشيخ الدربندي (رحمه الله) : فنفض الماء من يده ، وحمل (عليه السلام) على القوم ، فكشفهم ، فإذا الخيمة سالمة ... .
إن الإمام (عليه السلام) كان سيد سادات أهل النفوس الأبيَّة ، والهمم العالية ، فلمَّا سمع أن المنافقين يذكرون اسم الحرم والعترة الطاهرة ، كفَّ نفسه عن شرب الماء بمحض ذكرهم هذا ، فقد سَنَّ (روحي له الفداء) لأصحاب الشِّيَم الحميدة والغيرة ، سنة بيضاء ، وطريقة واضحة في مراعاة الناموس والغيرة (16) .
وهذه خصيصة شريفة أخرى من الخصائص الحسينية ، حيث وقف عليها الشيخ التُسْتري (أعلا الله مقامه) ، فقال :
\"ومنها : الغيرة : بالنسبة إلى النفس ، وبالنسبة إلى الأهل والعيال .
أما بالنسبة إلى النفس ... فأقواله في ذلك : شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة ، وأفعاله الدالة على ذلك كثيرة . لكن قد أقرح القلب واحد منها ، وهو أنه (عليه السلام) لمَّا ضَعُف عن الركوب ؛ لضربة صالح بن وهب ، نزل ـ أو سقط ـ عن فرسه على خدِّه الأيمن ، فلم تدعه الغيرة للشماتة ، والغيرة على العيال ، لأن يبقى ساقطاً ، فقام (صلوات الله عليه) ، وبعد ذلك أصابته صدمات أضعفته عن الجلوس ، فجعل يقوم مرة ويسقط أخرى ؛ كل ذلك لئلاَّ يروه مطروحاً فيشمتون .
وأما بالنسبة إلى العيال ، فقد بذل جهده في ذلك في حفر الخندق واضطرام النار فيه ، وقوله : ( اقصدوني دونهم ) . ووصلت إلى أنَّه صبَّ الماء الذي في كفه ، وقد أدناه إلى فمه وهو عطشان ؛ لمَّا سمع القول بأنَّه : قد هُتِكَت خيمة حرمك\" (17) .
وحينما عاد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى المُخيمَّ ، ورَامَ توديع العيال الوداع الثاني ؛ ليُسْكِن روعتهم ، ويُخفِّف لوعتهم ، ويُصبِّرهم على فِراقه ... قال عمر بن سعد لأصحابه : ويحكم ! اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحَرَمِه ؛ والله إن فرغ لكم ، لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم . فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المُخيمَّ ، وشكَّ سهم بعض أزر النساء ، فدُهشنْ وأُرْعِبن ، وصحنْ ودخلنْ الخيمة ، ينظرن إلى الحسين كيف يصنع ، فحمل عليهم كالليث الغضبان ، فلا يلحق أحداً إلاَّ بعجه بسيفه فقتله ، والسهام تأخذه من كل ناحية ، وهو يتَّقيها بصدره ونحره (18) .
ورجع إلى مركزه يُكثر من قول : ( لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم ) (19) .
بـأبـي مـن رسـيم ضـيمٍ فـأبى
أن يُـسام الـضيمَ واخـتار الردى
كـيف يـأوي الـضيمُ مـنه جـانباً
هــو مــأوى كـلِّ عـزٍّ وإبـا
فـغدا يـسطو عـلى جَـمْعِ العِدى
مـثل صـقرٍ شـدَّ في سربِ القَطا
شـبـلُ آســادٍ إذا مـا غـضبوا
زلزلوا الأرضَ بحملات الوَغى (20)
* * *
يـلقى كـتائبهم بـجأشٍ طـامنٍ
والـصدرُ في ضيقِ المجالِ رحيبُ
ويـرى إلى نحو الخيامِ ونحوهم
مـن طـرفه التصعيد والتصويبُ
لـلمشرفيةِ والـسهامُ بـجسمه
والـسمهرية لـلجراحِ ضـروبُ
حتى هوى فوقَ الصعيدِ وحان iiمن
بدرِ التمامِ عن الأنامِ غروبُ (21)
ثمَّ إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لمَّا سقط ولده علي الأكبر (عليه السلام) ، أتاه مُسرعاً وانكب عليه ، بعد أن كشف عنه قَتَلَته ، فوضع خده على خده ، وقال : ( على الدنيا بعدك العَفا ... يَعِزُّ على جدك وأبيك أن تدعوهم فلا يُجيبونك ، وتستغيث فلا يُغيثونك ) (22) .
ولمَّا ضرب عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي ، رأس القاسم بن الإمام الحسن (عليه السلام) بالسيف ... وقع الغلام لوجهه فقال : يا عماه ! فأتاه الحسين كالليث الغضبان ، فضرب عمرواً بالسيف ، فاتقاه بالساعد ، فأطنَّها (23) من المرفق ، وانجلت الغُبرة ، وإذا الحسين قائم على رأس الغلام ، وهو يفحص برجليه ، والحسين يقول : ( بُعداً لقوم قتلوك ، خصمهم يوم القيامة جدُّك ) ، ثمَّ قال : ( عَزَّ ـ والله ـ على عمِّك أن تدعوه فلا يُجيبك ، أو يُجيبك ثمَّ لا ينفعك ) (24) .
وروى بعضهم أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لمَّا أُصيب بالسِّهَام والحجارة ، وأعياه نزف الدم ، سقط على الأرض لا يقوى على القيام والنهوض ، فلبثوا هنيئة وعادوا إليه وأحاطوا به ، فنظر عبد الله بن الحسن السبط (عليه السلام) ، وله إحدى عشرة سنة ، إلى عمِّه ، وقد أحدق به القوم ، فأقبل يشتد نحو عمِّه ، وأرادت زينب حبسه ، فأفلت منها وجاء إلى عمِّه ، وأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين ، فصاح الغلام : يا ابن الخبيثة ! أتضرب عمِّي ؟ ، فضربه ، واتقاها الغلام بيده فأطنَّها إلى الجلد ، فإذا هي معلَّقة ، فصاح الغلام : يا عمَّاه ! ووقع في حجر الحسين ، فضمه إليه وقال : ( يا ابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فإنَّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين ) (25) . وأخذه الإعياء فلا تقوى جوارحه من شدة النزف على أن يجلس .
روى بعضهم : أنَّ أعداء الله أرادوا أن يتأكَّدوا من عجزه عن القيام لمواجهتهم ، فنادوا عليه : بأنَّ رحله قد هُتك ، فقام وسقط ، وحاول النهوض غيرة على عياله فسقط ، وجاهد ذلك ثالثة فسقط ... حينذاك اطمئنوا أنَّه لا يقوى على قيام .
وقد قال الشيخ التُسْتَري في \"خصائصه\" : وكان (عليه السلام) حين وقوعه صريعاً مطروحاً ، يسعى لتخليص أهله ومَن يجئ إليه ، فهو المطروح الساعي (26) .
* مُقتبَس من : \" الأخلاق الحسينية \" ، تأليف : جعفر البيَّاتي ، الناشر : أنوار الهدى ، ط 1 ، سنة 1418 ، ص 221 .
(1) جامع السعادات : 1 / 265 / باب : الغيرة والحمية .
(2) غُرَر الحِكَم .
(3) غُرَر الحِكَم .
(4) جامع السعادات : 1 / 265 .
(5) يراجع في تفصيل ذلك وبيانه المصدر السابق .
(6) أمالي الصدوق : 257 .
(7) كنز العمال : الخبر 7076 .
(8) من لا يحضره الفقيه : 3 / 381 .
(9) تحف العقول : 457 .
(10) المناقب ، عن : \" حلية الأولياء \" لأبي نعيم ، ومسند أبي يعلى .
(11) زينب الكبرى ( ع ) : 22 .
(12) المناقب : 2 / 223 .
(13) اللهوف : 67 .
(14) إبصار العين ، للشيخ السماوي .
(15) مقتل العوالم ، للشيخ عبد الله البحراني : 98 ، ونفس المهموم : 188 .
(16) في كتابه \" أسرار الشهادة \" : 411 .
(17) الخصائص الحسينية : 37 ـ 38 .
(18) مثير الأحزان ، للشيخ شريف آل صاحب الجواهر .
(19) اللهوف : 67 .
(20) من قصيدة للسيد محسن الأمين في كتابه \" الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد \" : 5 .
(21) له أيضاً ، في المصدر نفسه : 26 .
(22) تاريخ الطبري : 6 / 265 ، ومقتل العوالم : 95 .
(23) أي : قطعها .
(24) تاريخ الطبري : 6 / 257 ، والبداية والنهاية : 8 / 186 .
(25) تاريخ الطبري : 6 / 259 ، واللهوف : 68 .
(26) الخصائص الحسينية : 42 .