ولعلنا لن نأتي بجديد في قولنا إن العبرة التي يمكن للإنسان أينما كان استخلاصها من الفكر الحسيني تصطف بلا أدنى ريب إلى جانب الفقراء، وضعفاء الناس الذين غالباً ما تكون مطرقة ومشارط الأغنياء، موغلة في دمائهم وأرواحهم، وإذا عرفنا أن الثورة الحسينية بمدلولاتها الواضحة للعيان تنتسب إلى الثورة المحمدية العظيمة وتستمد منها زخمها الإنساني الخالد، فإننا حين ذاك سنصل بلا أدنى عناء إلى أهداف الفكر الحسيني، والزخم المتواصل في خلوده وديمومته كمثال مشرف لثورة الإنسان ضد الظلم والطغيان مهما كان غلوه وجبروته وعنجهيته.
فلقد بدأ الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فرداً مع ربه الخالق الجليل وبدأت بوادر النور تتدفق في وسط الظلام الجاهلي، الذي كان مستشرياً بين الناس آنذاك، ولقد أخذت منافذ الشر، والظلم، والجهالة، بالانكماش رويداً في صراع إنساني فكري قلّ نظيره في الوقت الذي تصاعدت وتيرة الخير، وهي تكتسح أمواج الظلام في طريقها إلى الرقي الإنساني.
ولكم تجندل العتاة، والبغاة، والطغاة الكافرون، تحت وهج النور الإيماني المتدفق من الفكر الإسلامي الوقاد، وهو يتوغل تباعاً في النفوس التي غرّر بها الظالمون الذين تصدّوا برعونة هوجاء لبوادر العلم، والخير، والتطور الإسلامي، الذي زرع مصابيح النور في القلوب والأرواح المغرّر بها والمغلوب على أمرها، لكن في نهاية المطاف كان الإسلام وما زال راية خفّاقة على رؤوس الإنسانية جمعاء ومنار هداية للجنس البشري أينما كان ملاذه.
من هنا جاء سبط الرسول الأكرم الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) وثورته العملاقة وفكره الإسلامي الخلاّق امتدادا عظيماً لبزوغ فجر الإسلام الخالد وانتشاره بين بني الإنسان ليشكّل عبرة خالدة في إعادة الأمور إلى جادة الصواب ووضع المسيرة الإسلامية على الصراط المستقيم، من هنا كان قول الشاعر الحسيني معبراً عن حال الإمام الحسين الخالد (عليه السلام):
إن كان دين جدي لا يستقيم إلا*** بقتلي فيا سيوف خذيني
وهذا القول إذا كان يفصح عن معنى محدداًً فإنه إشارة عظيمة وخالدة ودرس كبير لمن لا يصبر على الظلم الإنساني أياً كان مصدره ودليل عمل للجنس البشري في التصدي للانحراف الذي يتأتى غالباً من الطغاة الظالمين، ومع إننا نقرّ جميعاً بالعبرة التي قدمتها ومازالت لنا ملحمة الحسين (عليه السلام) فإننا نقرّ كذلك بالجانب الاعتباري العظيم الذي قدّمته هذه الثورة لنا من أجل تصحيح المسار الذي شطّ كثيراً عن طريق الرسالة المحمدية العظيمة، عندما أوغل الظالمون في طريق الظلم والجهالة، والاستهانة، بما جاءت به مبادئ الإسلام من قيم خلاّقة تقف إلى جانب الإنسان وتدعم فيه روح الإيمان، وتقوّي فيه عزيمة العمل الإنساني الخلاّق الذي يهدف إلى تنوير الإنسان وخدمته في آن واحد.
هكذا يمكن لنا أن ننظر إلى ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) العملاقة، والى فكره الإنساني المتبصّر بصغائر الأمور وكبارها، وسوف لا نحيد عن الحقيقة قيد أنملة عندما نؤشر القيمة الاعتبارية لهذه الملحمة الفعلية الفكرية، وعندما نؤكد استخلاص الدروس الإنسانية الخلاّقة منها، إنها درس إنساني يقف إلى جانب الإنسان والخير أبداً، وفي ذات الوقت تشكل نبعاً اعتبارياً مستديماً ينهل منه الإنسان وليس المسلمين حصراً قيمتهم الاعتبارية، وكرامتهم الإنسانية، التي حاول الطغاة البغاة الظالمون على مر التأريخ وما زالوا تدنيسها بمآرب لا تمت لقيم الشرف والإنسانية بأيّة صلة مهما قلّ مقدارها.
لقد أتاح لنا الإمام الخالد (عليه السلام) أن نخلد إلى أنفسنا، ونتبصر أفعالنا، وأفكارنا، ونفرز أهدافنا ونمحّصها بصورة متأنية وصحيحة، ثم نقارنها بالأهداف الإسلامية الوقّادة وبفعلها الباهر، وقدرتها الخلاّقة على إدارة دفة التأريخ لصالح الخير، إذا ما رغب الإنسان أينما كان في ذلك، لقد قال الحسين(عليه السلام) الخالد قولته وثبت على وجه التأريخ فعلته وواقعته العظيمة، ثم ترك لنا الخيار في العبرة والاعتبار، فمن وعى ذلك وقرأ صفحات التأريخ بصورة صحيحة ذلك هو الفائز حتماً، ومن كان ولا يزال من الخلق غائباً في غيبوبته نائماً خلف ستارة العتمة الفكرية، ملفعاً بوشاح الجهالة والظلام، ذلك هو الخاسر حتماً وما هي إلا وقفة مع النفس حتى تجد العبرة بين يديك مستمدة من ثورة الإمام الخالد (عليه السلام) وتجد الكرامة الإنسانية ترفرف فوق روحك وتكلل حياتك في صميمها حتى الموت.
تلك عبرة ملحمة الحسين (عليه السلام) وتلك هي قيمتها الاعتبارية الإنسانية على مر التأريخ وسيبقى لك الخيار أيها الإنسان إلى الأبد، فبعقلك ويدك ستصل إلى جادة الصواب وبهما ستكون من الخاسرين.
الشعائر الحسينية : فلسفة استحضار الألم والتفريط بقيمته...
لو تأمّلنا بعض غايات الإنسان،مثل النجاح،السلام،الشهرة،النفوذ،الثراء،طلب العلم والمعرفة...إلخ، سنرى أنّ كل غاية من تلك الغايات لا بدّ وأن ترتبط بغاية الغايات (السعادة)، فهي الغاية التي تدور في فلكها مجمل غايات الإنسان، وبغضّ النظر عن مدى نجاح تلك الغايات، صغرت أم كبرت في تحصيل تلك الغاية الأم..ولا يبدو هناك من قيمة ترصد لأية غاية إنسانية ما لم تحقق شكلاً من أشكال السعادة أو تشق درباً نحوها.. اترك للقارئ تأمّل غاياته،فردية كانت أم جماعية، وتتبُعها ليرى في أي رافد تصب أو لأي رافد تتجه.
تفهم السعادة وتستشعر بمحورين أساسيين هما: الألم والغبطة...قد تبدو السعادة للوهلة الأولى أكثر التحاماً بالغبطة،كما تبدو أكثر ابتعاداً عن الألم، ولكن لو صدّقنا بأنّ الغبطة لا تستشعر ما لم نستشعر الألم،فهذا يعني أنّ السعادة كغاية لا تدرك إلاّ بعد حدوث الألم أو استشعاره،وإذا كانت السعادة غاية الوجود،والغبطة ضرورية لتحصيل السعادة،وإذا كان الألم ملزماً لاستشعار الغبطة،فهل هذا يعني إنّ غاية الإنسان بالنتيجة هي استحضار الألم لبلوغ السعادة،وأن الغبطة حلقة وصل بين الألم والسعادة!..
قد تبدو صورة الطرح ضبابية وقد تقود إلى فهم الإنسان فهماً مازوشياً!... ولكنّها صورة عرجت على الألم كمحور رئيسي في حياة الإنسان وهذا قد ينصف الموضوعية!...
كي نقترب من الصورة بدون تشوش لا بد من مثال...فلنأخذ الشعائر الحسينية كوننا نحتفي بذكرى استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) بواقعة الطّف، ولما في هذه الذكرى من استحضار مهيب للألم..
لنبدأ ببعض التساؤلات:.
... ما الغاية من نبش التاريخ، ما الهدف من استحضار فاجعة من فواجعه، وتسويقها في كرنفال ديني قوامة الألم و المظلومية..
ألا يبدو من المؤلم استحضار الألم سنوياً بمواكب جرّارة، ثم التبعثر والعودة دونما غبطة تصلنا غايتنا الأم أو بأحد أذيالها أو خيوطها.. ما القيمة هنا؟
...سوف لا أخرج البيضة من جيبي وادّعي إنها بيضة تلك الدجاجة...لذا سأقف على قيمة ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) ومن أفواه خطباء الطائفة المعنيّة، ومرجعياتها، لنرى وبموضوعية لا بأس بها فيما إذا كانت الشعائر الحسينية بنمطيتها التقليدية المعروفة تنسجم وتتفق مع روح الثورة أم لا،تتقاطع مع قيمها أم تنحرف عنها...
- (..ثورة الأمام الحسين ثورة ضد الظلم والاستبداد تتوارثها الأجيال لاستقاء الدروس واستخلاص العبر....) سأتفق مع هذا الطرح واسأل: بأية قيمة خرجنا من تلك الدروس والعبر والظلم يحفّنا..
هل حققنا غبطة ما بكسر شوكة ظالم،أما تر أنا استحضرنا ألم الفاجعة التي حطّت بتلك الثورة وما حفّها من ظلم ونسينا غبطة التصدي كدرس!..
تلك الجموع لا تبكي الحسين(عليه السلام) بقدر ما تبكي الظلم الذي أنهك أجسادهم، وبدد أحلامهم، وهو القاسم المشترك بينهم وبين كل مظلوم، هم يستحضرون ألم هذا الظلم بقديمه وجديده ويتمرغون به دونما غبطة..أَوَ ليست أقدامهم غائرة في مستنقع الظلم وبأبشع صوره، وهم يحتفون بقيمة رجل تحرك ضد الظلم وخرج عليه،أين غبطة تحركهم وخروجهم..!..
- (أول ثورة إسلامية وحركة إنسانية ضد استغلال الدين لأغراض الاستبداد السياسي والقهر الجماعي هي تلك الثورة الغرّاء ثورة إمامنا الحسين(عليه السلام)..)
..أحسنت..هذا ما سأقوله لمن يطرح هكذا طرح..ولكن..قبل أن تنظر في المرآة لترى من يستغل الدين،أنظر من حولك وتبصّر كمسلم،أنظر في أحوال العراق،لبنان،فلسطين،مصر،إيران..الخ ،أنظر محلياً وإقليمياً وعالمياً علّك تقف على حجم استغلال الدين، بل استنفاذه لأغراض كتلك التي ذكرت،ماذا أنجزتم وأي درس استقيتم، والاستغلال يتضخم ويتدفق في تيارات ومجالس عليا،عصابات ومافيات دينية،هل استحضرتم الم الاستغلال وفواجع الثورة عليه، وتقاعستم عن استحضار معاوله..هل حققتم أية غبطة بتحطيم معول،هل اقتربتم من غبطة النهوض بالدين لا استغلاله..
- ... (وبعد..ثورة الحسين(عليه السلام) لم تكن هذا وذاك وحسب..فهي ثورة نهضوية إصلاحية ضد الفساد الإداري،ضد الاستحواذ على بيت المال وتبديد أموال المسلمين،ضد استلاب الحقوق وانتهاب الأرزاق...)
حسنا،لقد ثار الحسين(عليه السلام) لانتزاع بيت المال من الطامعين،ثار من أجل العدالة الاجتماعية ،من أجل الحرية والكرامة،لم يقف مكتوفاً أمام مليشيات الأسواق السوداء،ولا متفرجاً على عصابات النهب والتهريب،ولا منتظراً فرجه من الله(تعالى) أمام الكروش المتخمة والبطون الخاوية..إن كنّا قد اغتنمنا العبرة والدرس..أين غبطة الإصلاح إذن؟..
تلك الجموع المليونية قد حققت تعايشاً مميزاً مع كل ما رفضه الحسين(عليه السلام) وخرج عليه ثائراً، فأي غبطة معرفية وأيّة قيمة إنسانية بمثل هذا التقهقر..
ما ذكرته هو بعض ما يطرح من فوق المنابر،بعض ما يكتب ويدرّس، بعض ما حفظناه على ظهر قلب كقيم لا نقوى على تفعليها، لا بل لا نقوى على خطها ولصقها على الجدران...وأكتفي بهذا القدر فكل ما يطرح على نفس الشاكلة، ورده على نفس المنوال..
لعلّنا ندرك بأنّ قيمة الثورات الإنسانية من قيمة ما تحدثه من أثر في الوعي الجمعي، والوجدان العام، وما يحدثه هذا الأثر من يقظة تلهب العقل، وتثريه، وتحركّه لصياغة الواقع بشكل أفضل.. وإذا كانت ثورة الحسين(عليه السلام) متشبعة بكل ما قد يُحدِث مثل هذا الأثر ومن وجهة نظر الطائفة المعنيّة على أقل تقدير..فهل يبدو من الإنصاف لديها أن يختصر الاحتفاء،وتختصر الشعائر بصور التظلّم والتركيز على المظلومية، وتختزل بعروض تتمركز حول الافتتان بحب أهل البيت(عليه السلام)..هل أحدث مثل هذا التركيز والاختزال الأثر المذكور؟، وصاغ للطائفة واقعاً أفضل منذ استشهاد الحسين(عليه السلام) لغايته؟، أم أنّه أحدث تورماً مأساوياً بالأثر الوجداني للثورة على حساب أثرها في الوعي وتأثيرها في إيقاظ العقل وتحريكه لتفعيل القيم التي ثار من أجلها الحسين(عليه السلام) على أرض واقعنا السقيم..
أية غبطة من تورّم كهذا لم يبق من حيز مفتوح في الفنار الحسيني، للإثراء بفعاليات ثقافية هادفة وأنشطة جادة، تستهدف انتزاع قيمة الثورة من قوالبها الخطابية المكررة وصياغتها بقوالب الفعل والتغيير،بحركات الإصلاح والنهضة، أو التوعية للتحرك بهذا الاتجاه،بحلقات التثقيف والتنمية الفكرية لصناعة الحدث،وكل ما يستنهض الجموع ويشحذ هممهم،يستقطب ويستثمر طاقاتهم لاستئصال مرارة الواقع، أو السعي الحثيث لاقتناء مباضع الاستئصال بعد التعرف على الصحيح منها.... ترى.. كم تنحرف الشعائر الحسينية بأنساقها المأساوية الموضوعة،عن أهداف ثورة الحسين(عليه السلام) وقيمها وفي أي أثر تتخندق..
كم تغترف من الشحن العاطفي والسير العكسي على درب الحسين(عليه السلام) باستحسان الظلم واستحباب التعايش معه كون الحسين(عليه السلام) مات مظلوماً.. كم تقترب من الإفراط باستحضار الألم والتفريط بقيمته،..تساؤلات كثيرة أخشى أن لا تحمل إجاباتها غبطة الصدق.. لا يستحضر الألم من أجل الألم..بل يستحضر من أجل الخروج بقيمة،وكل قيمة تُحدِث غبطة...والغبطة تصلنا بغايتنا الأم أو تعبّد لنا إحدى دروبها الشائكة.. كل درب نعبّده هو احتفاء مهيب بكل ثورات الإنسانية من أجل الإصلاح والنهضة..فكم درب عبّدنا أو سنعبّد بشعائر تحمل ثقل الألم ولا تستحضر غبطته!!..
الفقرة الاولى الإمام الحسين (عليه السلام) عبرة ً واعتباراً للكاتب علي حسين عبيد
الفقرة الثانية الشعائر الحسينية : فلسفة استحضار الألم والتفريط بقيمته بقلم فاتن نور