اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
هناك الكثير من التوجيهات الأبوية الصادقة للإمام الخامنئي (دام ظله) المتعلقة بالعبادة وروحيتها، ومضمونها، من الصلاة إلى الذكر والاستغفار والدعاء، وغيرها من العناوين. وسنتعرض في هذا الفصل إلى بعض هذه العناوين سائلين اللَّه تعالى أن يوفقنا للعمل بها.
الصلاة
يحدثنا الإمام الخامنئي (دام ظله) الوارف عن أهمية الصلاة في البعدين الفردي والاجتماعي فالصلاة كما هي علاج لأمراض النفس من خلال العبودية للَّه تعالى، فهي أيضا علاج لأمراض المجتمع المنغمس في الأمور المادية المحتاج لعلاقة مع اللَّه الرحيم، يقول سماحته (دام ظله) كلما ازداد المصلّون المتوجهون الخاشعون الذاكرون، كلما قلّت الظلمات والأنانية والتفرّد والاستبداد وسوء الظن والحرص والاعتداء والحسد، ويزداد في المقابل نور الفلاح على جبين الحياة ويتلألأ. فأساس كل مرارات البشر من الغفلة عن اللَّه، والاهتمام بالمصالح الشخصية فقط. والصلاة تخرج الإنسان من سور الظلام، وتوجه شهوته وغضبه نحو الحقيقة المتعالية والخير العام(1).
اليوم يتعرض الإنسان والإنسانية للضغوط الشديدة بسبب سيطرة النظام الآلي على جميع المجتمعات البشرية، ويضطر كل بشري أن ينظم حياته الفردية والاجتماعية مع الآلة، تلك النغمة الثقيلة والمهلكة للروح، وفي هذا التناغم يخفت لون صلة الرحم والمروءة والعفو والإيثار وكل القيم الأخلاقية الأخرى، وتختفي في هذا الوضع بل تنهدم الأسرة وأخلاق المعاشرة وحنان الأسرة. منذ عشرات السنين أحس المشفقون وبعيدو النظر بهذا الخطر الداهم في قلب محيط المدينة الصناعية والآلية وأطلقوا تحذيراتهم، لكن للأسف ما يزال ملايين الناس وخاصة الشبان الذين يمتلكون أحاسيس مرهفة وروحية أكثر تضرراً من غيرهم، ما يزالون في هذا البلاء الكبير دون دفاع ولا علاج. لذلك فإنّ الناس اليوم أكثر حاجة من ذي قبل للعلاقة المعنوية مع اللَّه الرحيم والكريم، والصلاة هي أنجع وأفعل وسيلة لتأمين هذه الحاجة(2).
مضمون الصلاة
يتحدث الإمام الخامنئي (دام ظله) عن الصلاة الحقيقية، التيتقام بحضور القلب ، الصلاة التي تترك آثارها على حياة الإنسان، والصلاة التي تؤثر في بناء الذات، والصلاة لا تكون كذلك إلا إذا أقيمت بحضور القلب وتوجهه نحو الحق جل وعلا يقول سماحته في هذا الإطار.
إنّ العبادات وعلى رأسها الصلاة لها كل هذه الأهمية، وسميت الصلاة بعمود الدين، ذلك عندما تكون الصلاة مقرونة بالتوجه والحضور، فإنها تجعل قلب المصلّي وروحه والجو من حوله لطيفاً ونورانياً ومعطراً، وتنير البيت والأسرة وجو العمل والأصدقاء وجو المحلة وكل أجواء الحياة(3).
ويقول في مكان آخر: رغم ما لدينا حول الصلاة من كلام مختار وقيِّم مروي عن الأئمة المعصومين(ع) وعن المفكرين وأصحاب الرأي الديني ما ينوّر قلوب الهداية الخاصة، ويعرفها بحقيقة وحكمة هذه الفريض الإلهية الكبرى، رغم ذلك ينبغي القول أنّ منزلة الصلاة لم تعرف جيداً عند كثير من الناس، حتى عند الذين يعتبرون الصلاة فريضة ويؤدونها.
لا شك أن واجباً ثقيلاً يقع على عاتق علماء المجتمعات الإسلامية في هذا المجال، وينبغي أن تستعمل جميع أساليب التبيين والتوضيح من أجل أداء حق معرفة الصلاة(4).
الصلاة معبر السلوك
ينبغي القول أن الصلاة هي المعبر الأساس لسلوك الإنسان في الطريق الذي وضعته الأديان الإلهية أمام البشر ليتمكن من خلاله بلوغ الهد والغاية الأساس للحياة أي الفلاح ونيل سعادة الدنيا والآخرة، والصلاة هي الخطوة الأولى للسلوك إلى اللَّه، لكن سعة هذا العامل الإلهي كبيرة لدرجة أنه يصبح جناحاً يحلّق به الإنسان العرشي في أوج كماله البشري أيضاً، إلى حد أنّ أفضل البشر في التاريخ أي رسول الإسلام الأعظم قال " الصلاة قرة عيني" وكان يطلب من المؤذن عند حلول وقت الصلاة أن يريح نفسه ويطمئنها بأداء الأذان، ولعله يمكن القول أنه ليس لأي عمل عبادي آخر غير الصلاة كل هذا الأثر الكبير وتيسير أمور الإنسان ودعمه خلال جميع مراحل تكامله المعنوي. فالصلاة تمنح أفراد المجتمع السلامة والسمو الأخلاقي والمعنوي أولاً، كما إنها بشكلها ومحتواها الخاص تدعو المصلّي للانضباط وتنجيه من الخواء والضياع، لذلك ينبغي أن تعدّ بحق كأحد أهم عوامل الانضباط والانتظام الاجتماعي.
إذا راجت الصلاة بين الناس بحضور وعن شوق وفي وقت فضيلتها، فسينال الناس نتائجها القطعية تلك. ومن البديهي أن الصلاة بكسل، ودون حضور، أو رياء، لن تحمل أياً من تلك الفوائد(5).
الاستغفار
يعطي سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) الاستغفار مساحة كبيرة في حياة الإنسان، ويغوص فيعمق هذا المفهوم شارحاً لمعناه، إلى ما له من الفوائد على دين الإنسان ودنياه وغيرها من المفاهيم المهمة فيقول عن الاستغفار وأهميته. الاستغفار ينجيكم من الحقارة، الاستغفار ينجينا من القيود والسلاسل والغلّ. الاستغفار يجلي صدأ قلوبكم النورانية التي وهبها اللَّه تعالى لكم ويطّهرها. القلب يعني النفس، يعني الروح، يعني الهوية الواقعية للإنسان. إنه شيء نوراني جداً. كل إنسان نوراني، حتى الإنسان الذي لايعرف اللَّه ولا يرتبط به، فإنه يحمل نورانية في جوهره وذاته؛ لكن الصدأ يغطي قلبه لافتقاره إلى المعرفة ولارتكابه الذنوب وركوبه الشهوات، والاستغفار يجلي ذلك الصدأ وينوّره.
الإستغفار يعني طلب المغفرة والعفو الإلهي عن الذنوب، إذا تم الاستغفار بشكل صحيح فسينفتح باب البركات الإلهية في وجه الإنسان، فكل ما يحتاج إليه الفرد البشري والمجتمع الإنساني من ألطاف إلهية وتفضلات ورحمة ونورانية وهداية إلهية وتوفيق من اللَّه والعون على الأمور والنجاح في الساحات المختلفة؛ تنغلق أبوابها بسبب الذنوب التي نرتكبها. فالذنوب تصبح حجاباً بيننا وبين الرحمة والتفضل الإلهي،والاستغفار يزيل ذلك الحجاب، ويفتح أمامنا سبيل الرحمة والتفضّل الإلهي، تلك هي فائدة الاستغفار (6).
آثار الاستغفار
وعن آثار الاستغفار في الدنيا والآخرة يقول (دام ظله): لذا لاحظوا آيات القرآن في عدة مواضع قد ذكرت للاستغفار فوائد دنيوية وفوائد أخروية. مثلاً: { وأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ }(7) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}(8) ومن هذا القبيل? كل تلك الآيات يفهم منها أن السبيل إلى نيل التفضل الإلهي هو الاستغفار، وببركته ينهمر الفضل الإلهي على قلب الإنسان وجسمه وعلى المجتمع الإنساني، لذلك فإنّ الاستغفار مهم. الاستغفار بذاته هو جزء من التوبة، والتوبة تعني العودة إلى اللَّه. وعليه فإن الاستغفار هو ركن من أركان التوبة، وهو طلب العفو والمغفرة من اللَّه تعالى.
وهي إحدى النعم الإلهية الكبرى، أي أن يفتح اللَّه تعالى باب التوبة بوجه عباده ليتمكنوا من السير في طريق الكمال، وأن لا يقعدهم الذنب عن ذلك، لأن الذنب يسقط الإنسان من أوج علوّه الإنساني. فكل ذنب يوجه لروح الإنسان وصفائه ومعنويته وعزته الروحية ضربة، ويذهب بشفافية روح الإنسان ويكدّرها. فالذنب يقضي على الجانب المعنوي للإنسان والذي يميّز الإنسان عن باقي موجودات عالم المادة، ويسقط شفافيته ويقربه من الحيوانات والجمادات. وعلاوة على هذا الجانب المعنوي فإنّ الذنوب تتسبب بسلب توفيق الإنسان في حياته. فالإنسان يفشل في كثير من ميادين التحرك البشري بسبب الذنوب التي تصدر عنه. ولذلك الأمر تبرير علمي وفلسفي ونفسي أيضاً. وليس تعبداً وألفاظاً فقط(9).
نموذج أحد
كيف يقعد الذنب الإنسان؟ مثلاً في معركة أحد تحول الانتصار إلى هزيمة بسبب التقصير الجماعي للمسلمين. أي أنّ المسلمين انتصروا في البداية، لكن الرماة الذين يفترض أن يبقوا عند شق الجبل ليحفظوا ظهر الجبهة من النفوذ والتسلل، طمعوا بالغنائم وتركوا متاريسهم وتوجهوا نحو الساحة، فالتفّ العدو من الخلف ونفّذ هجومه، فمزّق المسلمين وكانت هزيمة أُحد بسبب ذلك، وقد تحدثت عشر أو اثني عشر آية من سورة آل عمران عن قضية الهزيمة تلك، لأنّ المسلمين كانوا يعيشون اضطراباً شديداً بسبب تلك الهزيمة، وكانت ثقيلة عليهم كثيراً، فجاءت آيات القرآن تلك لتهبهم الاطمئنان وتهديهم، ولتفهمهم سبب هزيمتهم وسبب ذلك الضعف، إلى أن يصل إلى الآية الشريفة: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}(10) أي ما رأيتموه في معركة أُحد من استدبار بعضكم للعدو وتسبب بالهزيمة كانت له أسبابه ومقدماته، فكان هؤلاء يعانون من ضعف داخلي، فقد أزلهم الشيطان بمساعدة الأعمال التي كانوا قد ارتكبوها من قبل، أيّ أنّ ذنوبهم السابقة قد تظهر آثارها في الجبهة، في الجبهة العسكرية أو السياسية أو عند مواجهة العدو أو عند ممارسة البناء أو في ممارسة التعليم والتربية، وحيث تجب الاستقامة، وحيث يجب الفهم والإدراك الدقيق، وحيث يجب أن يكون الإنسان كالفولاذ يقطع ويتقدم ولا تقف الموانع بوجهه.
طبعاً تلك هي الذنوب التي لم تمحها التوبة النصوح والاستغفار الحقيقي. في نفس السورة هناك آية أخرى تبين هذا المعنى بصورة أخرى. القرآن يريد أن يقول لا عجب أنكم تلقيتم الهزيمة وواجهتم مشكلة في جبهة الحرب، فمثل هذه الأمور تحصل، وقد حصلت من قبل، فيقول: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (11) أي ما الذي دهاكم وأصابكم من تزلزل وأحسّ بعضكم بالضعف واليأس بسبب هزيمتكم في معركة أُحد? فالأنبياء السابقون قد تعرضوا لحوادث أيضاً في ساحة الحرب لكنهم لم يضعفوا ويهنوا بسبب ما أصابهم، ثم يقول: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا سأَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا....}(12) أي أنّ أصحاب الأنبياء كانوا إذا واجهوا المصائب في الحروب والحوادث المختلفة كانوا يتوجهون إلى الدعاء إلى اللَّه ويقولون: { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا}(13)، وهذا يدل على أن الحوادث والمصائب ناتجة أساساً عن الذنوب التي يحتطبها الإنسان. تلك هي قضية الذنوب(14).
********
(1) حديث الولاية: ج7، ص14.
(2) من ندائه إلى مؤتمر الصلاة (8-9-1998م).
(3) (4) من ندائه إلى المؤتمر السابع للصلاة في أرومية (28-9-1997م).
(5) (6) نداءه إلى ملتقى الصلاة التاسع (8-9-199م).
(7) سورة هود، الآية: 3.
(8) سورة هود، الآية: 52.
(9) أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص163.
(10) سورة آل عمران، الآية: 155.
(11) سورة آل عمران، الآية: 146.
(12) (13) سورة آل عمران، الآية: 147.
(14) أخلاق ومعنويت (فارس)، ص165.