اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
لاحظوا أن الذنوب التي يرتكبها الإنسان والمخالفات المختلفة والأعمال الناشئة عن الشهوة وحب الدنيا والطمع والحرص على مال الدنيا والتعلق بالمنصب الدنيوي والبخل عن ما في اليد والحسد والغضب، كل تلك الأمور تترك في وجود الإنسان أثرين قطعياً.
الأثر الأول معنوي وهو تجريد الروح من روحانيتها وإخراجها من نورانيتها، واضعاف المعنوية عند الإنسان، وسدّ سبيل الرحمة الإلهية بوجه الإنسان.
الأثر الثاني (مادي) عندما يقتضي الوضع من الإنسان أن يصمد ويقاوم ويبدي إرادته في ساحة المواجهات الاجتماعية؛ تبرز آثار ذنوبه عليه، وإذا لم يكن هناك عامل آخر ليجبر الوضع والضعف فسيهلك الإنسان ويمنى بالهزيمة. في بعض الأحيان تتدخل عوامل أخرى كصفة حسنة أو عمل حسن قام به الإنسان فيجبر الأمر ولسنا هنا في صدده، لكن المؤكد هو أن الذنب بذاته له أثره. لذلك أنعم اللَّه على الإنسان بنعمة كبيرة هي المغفرة فبيّن أنّ الندم على الذنب الذي يترك أثراً عادة مكانه باب التوبة والاستغفار فإنه مفتوح، فالذنب الذي ارتكبته كالجرح الذي أحدثته في بدنك وأدخلت بذلك الميكروب إليه، فالمرض حتمي? إذا أردت أن تقضي على أثر هذا الجرح والمرض والضربة في وجودك، فقد فتح اللَّه تعالى لك باب التوبة والاستغفار والإنابة والعودة إلى اللَّه، فإن عدت سيجبر اللَّه تعالى النقص، تلك هي النعمة الكبرى التي منّ اللَّه تعالى بها علينا(15).
موانع الاستغفار
1- الغفلة
يشير سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) في حديثه عن موانع الاستغفار إلى مسألة الغفلة ، ويعتبرها من أهم موانع الاستغفار موجها خطابا شاملا لكل المكلفين محذراً إياهم من الوقوع في فخ الغفلة يقول سماحته (دام ظله). إذا أردنا أن نحصل على الاستغفار وعلى هذه النعمة الإلهية، علينا أن نبتعد عن خصلتين: الغفلةو الغرور.
فالغفلة هي أن لا يلتفت الإنسان كلياً إلى أنه يذنب، كبعض الناس، لا أقول الكثير منهم، لا أركز هنا على قلتهم وكثرتهم، فقد يكونوا قلائل في بعض المجتمعات، على أي حال هذا النوع من الناس موجود في الدنيا بين الناس، هم غافلون ويرتكبون الذنوب دون أن يلتفتوا إلى أنهم يرتكبون مخالفة، تراه يكذب ويتآمر ويغتاب ويلحق الضرر ويعمل شراً ويدمر ويقتل ويسحق مختلف الناس الأبرياء، وعلى صعيد أكبر وأوسع يجعل الشعوب تعيش الهلع، يضل الناس، كل ذلك ولا يحسّ أنه يرتكب مخالفة. وإذا قال له أحد. إنك ترتكب ذنباً. فقد يقهقه ويسخر ويقول. ذنب؟ أي ذنب؟ بعض أولئك الغافلين لا يعتقدون أساساً بالثواب والعقاب، وبعضهم يعتقد بالثواب لكنه غارق في الغفلة لا يلتفت إلى ما يفعل مطلقاً. إذا دققنا في ذلك في حياتنا اليومية سنجد أنّ بعض حالات حياتنا شبيهة بحالات الغافلين.
فالغفلة شيء عجيب جداً وخطر كبير. لعل الإنسان لا يواجه خطراً أكبر ولا عدواً أشد من الغفلة هذا هو حال البعض. فالإنسان الغافل لا يفكر بالاستغفار أبداً، بل لا ينتبه أنه يذنب رغم أنه غارق في الذنوب، لكنه في سكر ونوم، حقيقة كالإنسان الذي يتحرك خلال نومه. لذلك فإنّ أهل السلوك الأخلاقي عندما يبيّنون منازل السالكين في مسلك الأخلاق وتهذيب النفس يطلقون على المنزل الذي يريد الإنسان فيه أن يخرج من الغفلة يسمّونه منزل اليقظة. وفي المصطلحات القرآنية فإنّ النقطة المقابلة لهذه الغفلة هي التقوى، والتقوى يعني اليقظة والرقابة الدائمة للنفس. فإذا غفل الإنسان ارتكب عشرات الذنوب، ولا يحس مطلقاً أنه مذنب. والإنسان المتقي في النقطة المقابلة، فإذا بدر منه أي ذنب طفيف يتذكر فوراً أنه قد أذنب، ويسعى إلى جبران ذلك { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا}(16) فبمجرد أن يمر الشيطان من جنبهم ويلفحهم ريحه، يدركون فوراً أن الشيطان قد أصابهم وأنهم قد أخطأوا وغفلوا، لذلك { تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}(17) أعزائي أيها الإخوة والأخوات، كائناً من تكون التفت ، فهذا الكلام ليس موجهاً لجمع من الناس لأقول على قليلي الإطلاع أو الأميين أو الشبان أو الصغار أن يلتفتوا، كلا على الجميع أن يلتفتوا ، من علماء ومفكرين وكبار وشخصيات وصغار ومتمولين وفقراء على الجميع أن يلتفتوا إلى أدنى غفلة تلمّ بهم فيرتكبون الذنوب دون أن يلتفتوا أنهم يذنبون، فذلك أمر عظيم جداً. فالذنب الذي نرتكبه أنا وأنتم ولا نلتفت له، ولأننا لم نلتفت أننا قد أذنبنا فلن نتوب من ذلك الذنب ونستغفر منه، ثم في يوم القيامة تنفتح أعيننا، عندها نتعجب من وجود أشياء في صحيفة أعمالنا. يتعجب الإنسان ويتساءل. متى قمت بتلك الأعمال؟ ولا يتذكر أبداً، ذلك هو ذنب الغفلة وإشكاله. إذاً فالغفلة هي أحد موانع الاستغفار(18).
2- الغرور
المانع الآخر الذي يركز عليه سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله)، هو الغرور باللَّه تعالى حيث يتحدث أولاً عن معنى الغرور، وكيفية حصوله في قلب الإنسان، ويستشهد على الكلام بدعاء من الصحيفة السجادية يبين مدى الخطر الكبير على أخلاق الإنسان الذي يسببه الاغترار باللَّه تعالى، يقول (دام ظله) المانع الثاني هو الغرور، فما أن يؤدي الإنسان عملاً صغيراً حتى يصاب بالغرور، لدينا في تعابير الدعاء والرواية عبارة ( الاغترار باللَّه) وفي الدعاء(46) من الصحيفة السجادية والذي يقرأ في أيام الجمعة هذه (أي شهر رمضان المبارك)، توجد عبارة مؤثرة جداً وهي قوله (ع) " وَالشَّقاءُ الاشْقَى لِمَنِ اغْتَرَّ بِكَ. مَا أكْثَرَ تَصَرُّفَهُ فِي عَذَابِكَ، وَمَا أَطْوَلَ تَرَدُّدَهُ فِيْ عِقَابِكَ، وَمَا أَبْعَدَ غَايَتَهُ مِنَ الْفَرَجِ، وَمَا أَقْنَطَهُ مِنْ سُهُولَةِ الْمَخْرَجِ ". فالمغرور حسب تعبير هذه الرواية مبتلى بحالة (الاغترار باللَّه) والغرور يجعل المغرور بعيداً جداً عن العمران، ويده قاصرة جداً عن الخلاص والسلامة. لماذا؟ لأنه بمجرد أن يؤدي أي عملٍ صغير، فيصلي مثلاً ركعتي صلاة، أو يقدم خدمة للناس، أو يودع مالاً في صندوق ما، أو يؤدي أي عملٍ في سبيل اللَّه؛ فإنه يصاب بالغرور فوراً، ويقول في نفسه قد صلح عملي ووضعي عند اللَّه وقد سويت حسابي وسددته ولم أعد بحاجة لشيء. لا يذكر ذلك بلسانه، بل يردّده في قلبه.
التفتوا جيداً، إنّ اللَّه تعالى عندما فتح باب التوبة، وقال إني أغفر الذنوب، فليس معنى ذلك أن الذنوب أمر هيِّنٌ وصغير، كلا فالذنوب أحياناً تضيّع الوجود الحقيقي للإنسان كله، تنهيه، وتجعل من الإنسان الذي كان في مرتبة عالية من الحياة الإنسانية، تجعله حيواناً مفترساً قذراً لا قيمة له، هكذا هو الذنب، فلا تتصوروا أن الذنب أمر بسيط، فالكذب والغيبة والاستهتار بشرف الإنسان والظلم ولو بكلمة واحدة إنها ذنوب غير بسيطة ولا هينة. وإذا أراد الإنسان أن يحسّ بأنه مذنب، ليس ضرورياً أن يكون غارقاً في الذنوب لسنوات طويلة، كلا فالذنب الواحد ينبغي أن لا يستصغر، ففي الروايات وفي باب استحقار الذنوب نجد أن استحقار الذنوب مذموم، وسبب قول اللَّه تعالى أننا نغفر هو أن العودة إلى اللَّه مهمة جداً، وليس معناه أن الذنب صغير ولا قيمة له، الذنب أمر خطير جداً، لكن العودة للَّه والتوجه إليه وذكره أمور مهمة لدرجة أن من يقوم بها بشكل صادق وصحيح وحقيقي فإنّ مرضه المستعصي ذاك سيشفى، لذلك فإنّ الاغترار بالعمل الحسن أو ما تتصوره عملاً حسناً وقد لا يكون حسناً أو يكون غير ذي أهمية، فيأتي الغرور به ليمنعك من الاستغفار.
الإمام السجاد (ع) يناجي ربه في دعاء آخر فيقول: ( فأما أنت يا إلهي فأهل أن لا يغترّ بك الصديقون ) لاحظوا أي بيان وأية معرفة في هذا الدعاء، فهذا هو الطريق، إنه يقول إن الصديقين الذين ارتقوا إلى مقام سامٍ من العبودية لا ينبغي لهم الاغترار لأنهم ساروا في الطريق الصحيح إلى اللَّه، ويظنوا أنهم لم يعودوا بحاجة للجد والجهد، كلا ( أن لا يغترّ بك الصديقون ) لأن اغترارهم يمنعهم من الاستغفار، فالإنسان يستغفر عندما لا يكون غافلاً ولا يكون مغتراً باللَّه ولا يكون مخدوعاً ومعجباً بنفسه(19).
الاستغفار المؤثر
يتحدث الإمام الخامنئي (دام ظله)، عن الاستغفار المؤثر وكيفيته قائلا ً: المسألة الأخرى هي أن الاستغفار الذي يسهل الأمور هو الاستغفار الحقيقي والجدّي والمتضمن للطلب الحقيقي، افترضوا أن أحدكم ابتلي بمشكلة كبيرة وأراد أن يسأل اللَّه رفع ذلك البلاء عنه، كأن يواجه أحد أعزائه مشكلة لا سمح اللَّه، وسعى لحل المشكلة بالطرق العادية فلم يفلح، ثم توسل برب العالمين ودعاه وتضرّع إليه، لنفترض أن إنساناً أصيب أحد أعزائه بمرض، وتوجه إلى بيت اللَّه الحرام ليدعو، فكيف وبأي حال سيطلب من اللَّه؟ أطلبوا من اللَّه غفران ذنوبكم بنفس تلك الحال، اطلبوا المغفرة حقيقة، وقرروا أن لا تعاودوا ارتكاب ذلك الذنب. قد يقرر الإنسان أن لا يعود لذنب كان قد ارتكبه وتاب عنه، لكنه يزلِ مجدداً ويرتكبه، عليه حينها أن يعاود التوبة منه أيضاً، فلو عاد الإنسان عن توبته مائة مرة، فإن باب التوبة مفتوح أمامه للمرة الواحدة بعد المائة أيضاً، لكن عندما تتوب وتستغفر يجب أن لا تنوي منذ البداية أنني استغفر ثم أعود لارتكاب نفس الخطأ والمخالفة، لا يصح ذلك. في روايةٍ لأحد الأئمة (ع) قال: (من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه، فقد استهزء بنفسه) (20) أن يفرح الإنسان بذنبه ويردد بلسانه (استغفر اللَّه) فهو يسخر بذلك بنفسه، وأي استغفار هو ذاك؟ إنه ليس استغفاراً، فالاستغفار يعني أن يعود الإنسان، وأن يطلب من اللَّه تعالى بجد أن يعفو عن عمله السيئ، فكيف يقرر الإنسان أن يعود لمثل ذلك؟ هل يجرؤ في مثل هذه الحالة أن يطلب من اللَّه العفو؟ السبحة في الكف، والتوبة على الشفة، والقلب كله شوق للمعصية تضحك المعصية ساخرة من مثل هذا الاستغفار. أي استغفار هذا؟ إنه استغفار غير كافٍ. ينبغي أن يكون الاستغفار جدياً وحقيقياً.
والاستغفار ليس مختصاً بفئة من الناس لنقول على الذين أكثروا المعاصي أن يستغفروا، بل على جميع الناس حتى في مستوى النبي (ص) عليه أن يستغفر { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر}(21) فحتى النبي (ص) عليه أن يستغفر.... الاستغفار للجميع، لذا لاحظوا الأئمة ?عليهم السلام? أيّ تحرق وتململٍ لهم في هذه الأدعية، والبعض يظن أنّ الإمام السجّاد (ع) تضرّع هكذا ليعلّم الآخرين ذلك، نعم هناك تعليم بالشكل والمضمون، لكن الأساس ليس كذلك، أساس المسألة هي حالة الطلب لدى هذا العبد الصالح والإنسان السامي والعظيم، وهذا التضرع للَّه كان منه لنفسه، وهذا الخوف من عذاب اللَّه والميل للتقرب إلى اللَّه ورضوانه كان منه لنفسه، وهذا الاستغفار والطلب من اللَّه كان حقيقة منه لنفسه. قد يكون الاهتمام بالمباحات في حياتهم كاللذة المباحة والأعمال المباحة الأخرى تصبح في نظر الإنسان الذي سما إلى تلك الدرجة، تبدو سقوطاً وانحطاطاً، وهو يرغب أن لا يقع في إطار الضرورات المادية والجسدية، وأن لا يعير هذه المباحات وقضايا الحياة العادية نظرة أو لمحة، وأن يغور أكثر في طريق المعرفة وفي الوادي اللامتناهي للسير نحو الرضوان الإلهي وجنة المعرفة الإلهية، وعندما يرى أنه حرم نفسه من بعض ذلك فإنه يستغفر، لذا فإنّ الاستغفار للجميع.
... ليستغفر الجميع، ليستغفر أهل العبادة، والمتوسطون في العبادة، والكاهلون في العبادة ممن يكتفون بأقلّ الواجبات، وحتى أولئك الذين يتركون أحياناً بعض العبادات الواجبة لا سمح اللَّه، ليلتفت الجميع أن علاقتهم هذه مع اللَّه تيسّر أمورهم وتدفعهم إلى الأمام. اسألوا اللَّه تعالى العفو والمغفرة، اسألوا اللَّه أن يزيح عنكم الذنوب المانعة، أن يزيل هذه السحب من أمام شمس فيض لطفه وتفضّله، حتى يشعّ لطفه على هذه القلوب والأنفس. عندها سترون السمو والعزّة(22).
خاتمة إن ما سمعناه من سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله)، يلقي علينا الحجة البالغة في الالتزام بهذا النهج الإيماني المحمدي الأصيل، الذي ينبع من بحر الكتاب العزيز ومعارف أهل البيت (ع)، الثقلان اللذان ما إن تمسكنا بهما نجونا، ليصبَّ في سويداء القلب المتلهف للحقائق النورانية الإلهية، نسأل اللَّه تبارك وتعالى أن يوفقنا للخير والعمل به والسعي لمرضاته، الفوز بنُعمى الدارين آمين رب العالمين بحق محمد وآله الطاهرين.
*******
(15) أخلاق ومعنويت (فارس)، ص165.
(16) سورة الأعراف، الآية: 201.
(17) سورة الأعراف، الآية: 201.
(18) (19) أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص172.
(20) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، طبعة دار الوفاء، الثانية المنقحة، ج75، ص 356.
(21) سورة الفتح، الآية:2.
(22) من خطبة صلاة الجمعة (18-1-1997م).