جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة لهداية الإنسان، وتحريره من جميع ألوان الانحراف في فكره وسلوكه، وتحريره من ضلال الأوهام ومن عبادة الآلهة المصطنعة، وتحريره من الانسياق وراء الشهوات والمطامع، وتهذيب نفسه من بواعث الأنانية والحقد والعدوان، وتحرير سلوكه من الرذيلة والانحطاط.
وقد اختصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الهدف الأساسي من البعثة بقوله المشهور: (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وقد واصل الأوصياء والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) هذه المهمة لتترجم في الواقع في أعمال وممارسات وعلاقات، ولهذا كانت الأخلاق هي المحور الأساسي في حركاتهم، وقد جسد الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته المباركة المفاهيم والقيم الأخلاقية الصالحة، وضرب لنا وأصحابه وأهل بيته أروع الأمثلة في درجات التكامل الخلقي.
وفيما يلي نستعرض أخلاق النهضة الحسينية المباركة لتكون نبراساً لنا في الحياة:
أولاً: مراعاة حرمة الكعبة
رفض الإمام الحسين (عليه السلام) اللجوء إلى الكعبة لكي لا تستباح حرمتها، وكان يقول لمن طلب منه الالتجاء إليها: (إنّ أبي حدثني أنّ لها كبشاً به تستحل حرمتها فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش)(1).
وقال لأخيه محمد بن الحنفية: (يا أخي خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت)(2).
وقال لعبد الله بن الزبير: (يا أبن الزبير لأن ادفن بشاطئ الفرات أحبّ إليّ من أن ادفن بفناء الكعبة)(3).
ثانياً: الوفـاء بالعهـود والمواثيق
الوفاء بالعهود والمواثيق من الأخلاق الفاضلة في جميع الأديان إلهية كانت أم وضعية، وقد جسدت النهضة الحسينية هذه القيم الأخلاقية في اشد المواقف خطورة، فبعد اتفاق الإمام الحسين (عليه السلام) مع الحر بن يزيد الرياحي على أن يسايره فلا يعود إلى المدينة ولا يدخل الكوفة طلب منه الطرماح بن عدي أن ينزل قبيلة طي ليلتحق به عشرون ألف طائي فقال له الإمام (عليه السلام): (انّه كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف)(4).
فقد وفّى (عليه السلام) بعهده وان كان قد أفقده عشرين ألف ناصر له وهو بحاجة إلى أي ناصر.
ثالثاً: الرحمة والشفقة على الأعداء
أنّ إتباع الحق يقاتلون من أجل هداية الأعداء إلى المنهج الرباني لتحكيمه في التصور وفي السلوك وفي واقع الحياة، وهم لا يقاتلون انتقاماً لذواتهم وإنّما حبّاً للخير ونصراً للحق، ولذا نجدهم رحماء شفوقين حتى مع أعدائهم ليعودوا إلى رشدهم ويلتحقوا بركب الحق والخير، وقد جسد الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه أروع ملاحم الإنسانية والرحمة والعطف، ففي طريقة إلى كربلاء التقى بأحد ألوية جيش ابن زياد وكان ألف مقاتل مع خيولهم وكانوا عطاشى، فأمر أتباعه بسقي الجيش وقال لهم: (اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفا) وقد سقى الإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه ابن طعان المحاربي(5).
رابعاً: الإيثار ونكران الذات
أنكر أتباع الإمام الحسين (عليه السلام) ذواتهم وذابوا في القيادة التي جسدت المنهج الإلهي في واقعها المعايش، فلم يُبقوا لذواتهم أيّ شيء سوى الفوز بالسعادة الأبدية، فكان الإيثار والتفاني من أهم الخصائص التي اختصوا بها.
لما رأوا أنهم لا يقدرون يمنعون الحسين (عليه السلام) ولا أنفسهم تنافسوا أن يقتتلوا بين يديه(6).
وقبل المعركة وصل بُرير ومعه جماعة إلى النهر، فقال لهم حماته ـ بعد أن عجزوا عن قتالهم ـ : اشربوا هنيئاً مريئاً بشرط أن لا يحمل أحد منكم قطرة من الماء للحسين، فكان جوابهم: (ويلكم نشرب الماء هنيئاً والحسين وبنات رسول الله يموتون عطشاً لا كان ذلك أبداً)(7).
وفي شدة العطش رفض العباس (عليه السلام) شرب الماء قبل الإمام الحسين (عليه السلام) وقال:
يا نفس من بعد الحسيـن هوني***وبعده لا كنــــــت أن تكونـــي
هذا حسين وارد المنــــــــــون***وتشربيـــن بــارد المعيـــن(8)
خامساً:العلاقة بين القائد والأتباع
في كل نهضة هنالك قيادة وطليعة وقاعدة ترتبط بروابط مشتركة من أهداف وبرامج ومواقف، والقيادة دائماً هي القدوة التي تعكس أخلاقها على أتباعها، وفي النهضة الحسينية تجسدت الأخلاق الفاضلة في العلاقات والروابط حيث الإخاء والمحبة والتعاون والود والاحترام بين القائد وأتباعه وبين الأتباع أنفسهم، فالأتباع ارتبطوا بالقيم والمثل ثم ارتبطوا بالقائد الذي جسّدها في فكره وعاطفته وسلوكه، فالأتباع يتلقون الأوامر بقبول ورضى وطمأنينة.
ومن هذه القيم كان الإمام الحسين (عليه السلام) يخاطب حامل لوائه وهو أخاه العباس: (يا عباس اركب بنفسي أنت)(9).
ويخاطب أتباعه قائلاً: (قوموا يا كرام)(10).
ويخاطبهم أيضاً: (صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة)(11).
ونتيجة لهذا الترابط الروحي بين القائد والأتباع رفض الأتباع أن يتركوا الإمام الحسين (عليه السلام) لوحده بعد أن سمح لهم بالتفرّق عنه، فهذا مسلم بن عوسجة يخاطب الإمام (عليه السلام) قائلاً: (أما والله لو علمت أنّي اقتل ثم أحيى ثم احرق ثم أحيى ثم أذرّى يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك)(12).
وبعد الشهادة كان الإمام (عليه السلام) يقف على جسد جون وهو عبد أسود ويدعو لـه: (اللهمّ بيَّض وجهه وطيّب ريحه)(13).
ويعتنق واضح التركي وهو يجود بنفسه واضعاً خدّه على خدّه(14).
سادسـاً: مواساة القيادة لأتباعها
شارك الإمام الحسين (عليه السلام) أنصاره في السرّاء والضرّاء وفي آمالهم وآلامهم، وعاش في وسطهم يتعرض لما يتعرضون له، ولم يضع فاصلاً بينه وبينهم، فكانت أمواله وأطفاله وعياله معهم يبذلها من اجل الحقّ، وكان لأنصاره وأتباعه أسوة وقدوة وهو القائل: (نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم فلكم فيّ أسوة)(15).
سابعـاً: مراعاة العواطف والأحاسيس
في ظروف القتال قد ينسى القادة العواطف والأحاسيس ويتعاملون بعقولهم لمعالجة الظروف العصيبة، ولكن الإمام (عليه السلام) راعى العواطف والأحاسيس لذلك، فقد رفض السماح لعمر بن جنادة بالقتال بعد أن استشهد أبوه مراعاة لعواطف أمه، وهو ابن إحدى عشرة سنة، إلى أن علم أنّ أمه هي التي أذنت له ودفعته للقتال(16).
ثامناً: احترام وشائج القربى
احترام الإمام (عليه السلام) وشائج القربى حفاظاً منه على المفاهيم والقيم الأخلاقية التي خرج من أجل تحقيقها في الواقع، فحينما صاح شمر: أين بنو اختنا؟ أين العباس وأخوته، وكانت أمهم من عشيرته، فاعرضوا عنه ولم يجيبوه، فقال لهم الإمام (عليه السلام): (أجيبوه وان كان فاسقاً)(17).
تاسعـاً: صيانـة المرأة
احترم الإمام الحسين (عليه السلام) المرأة ووضعها في مكانها اللائق، ولم يصطحب معه النساء إلاّ لإكمال مسيرة الحركة الإصلاحية لإبلاغ أهدافها عن طريقهن.
والإمام ارجع أم وهب حينما أرادت أن تقاتل، وأرجع أم عمر بن جنادة بعد أن أصابت رجلين(18).
والتزمت النساء بالتعاليم الإسلامية في الحجاب وفي مقابلة المصاب وبالصبر، فلم يشققن جيباً ولم يخمشن وجهاً، ولم يرتفع صراخهنّ أمام الأعداء.
عاشـراً: أخلاقية الإعلام
لم يمارس الإمام الحسين (عليه السلام) الكذب والخداع والتمويه في إعلامه، وإنّما ركز على حقائق معلومة للجميع، فوضّح أهداف حركته وهي إصلاح الواقع، وحينما جاءته الأخبار عن مقتل مسلم بن عقيل لم يخف الأخبار عن أصحابه وإنما اخبرهم بذلك وشجعهم على الانصراف، وكان بين فترة وأخرى يخبرهم انه سيقتل وتسبى حريمه، ولم يخبرهم انه سينتصر عسكرياً.
حادي عشر: رفض البدء بالقتال
القتال نهاية المطاف بعد أن تعجز الوسائل السلمية وبعد أن يصل المسلمون إلى طريق مسدود فإمّا الذل وإمّا العزّ بالدفاع عن القيم والمبادئ الإسلامية.
وقد رفض الإمام الحسين (عليه السلام) البدء بالقتال، ففي طريقه إلى كربلاء قابل أول طلائع الجيش فلو دخل معركة معهم لهزمهم ولكنه رفض البدء بقتالهم وكان جوابه لزهير بن القين:(ما كنت لأبدأهم بقتال)(19).
وفي عاشوراء وقف شمر أمام معسكر الحسين (عليه السلام) وبدأ يكيل السباب والشتم للإمام، فأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فقال له الإمام (عليه السلام): (لا ترمه فانّي اكره أن ابدأهم)(20).
ومن أخلاق النهضة الحسينية:
قبول توبة المخالفين، ورفض الفتك بالأعداء، وعدم استخدام العبارات غير المهذبة حتى مع قادة الحكم الأموي.
وبهذه الأخلاق استطاعت النهضة الحسينية أن تحقق النصر الحقيقي بعد أن أيقن المسلمون أنها نهضة سليمة جاءت لإصلاح الواقع وتغييره بعد أن جسدت هذا الإصلاح وهذا التغيير في سلوكها وأخلاقها.
..........................
1- الكامل في التاريخ 38:4 .
2،3- بحار الأنوار 364:44، 86:45.
4- الكامل في التاريخ 50:4.
5- الإرشاد: 224 ، المفيد.
6- الكامل في التاريخ 72:4.
7- معالي السبطين 320:1.
8- مقتل الحسين: 336، المقرّم.
9- إبصار العين في أنصار الحسين: 28 محمد السماوي.
10، 11- حياة الإمام الحسين 199:3، باقر شريف القرشي.
12- بحار الأنوار393:44.
13- اللهوف في قتلى الطفوف: 47.
14- إبصار العين في أنصار الحسين: 85.
15- الكامل في التاريخ48:4.
16- تاريخ الطبري 304:4.
17- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك 237:5 .
18- بحار الأنوار 17:45.
19- الكامل في التاريخ52:4.
20- الإرشاد: 234.