لقد آمن بالاسلام وبالقرآن أفراد وجماعات كثيرة من غير المسلمين، وكان إسلامهم نتيجة تأثير القرآن في نفوسهم بطريق مباشر أو غير مباشر، فأما عن تأثيره المباشر فقد اعترفت به أفراد من علماء أوروبا ذوى الالباب والفطر السليمة ممن سمعوا القرآن أو قرأوه وفهموا بعض أسراره وإعجازه، ومن أمثلة ذلك ما فهمه أحد الاطباء من قوله تعالى: { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } (سورة النساء 56)
فأدرك أن وراء هذه الآية حقيقة علمية ما كانت معلومة للناس وقت نزول القرآن، وأنه لابد أن يكون من كلام عليم خبير بتركيب جسم الانسان، وبشبكة الاعصاب الدقيقة التى تنتشر أطرافها في الطبقة الجلدية وهى التى نستقبل الاحساس بالحرارة والبرودة والالم والراحة.
فهم ذلك الطبيب من الآية أن تجدد الالم الذى انقطع بحرق الجلد لا يكون إلا بإعادة الجلد حيا كما كان لكي يتجدد ألمه مراراً وتكراراً كلما تبدل الجلد في كل مرة بعد حرقه، وتأكد الطبيب بأن هذا الكلام لا يصدر إلا من عالم خبير بتركيب الجسم البشرى ووظيفة الاعصاب المنتشرة في كيانه، وأن هذا الكلام نزل منذ قرون بعيدة على لسان نبي أمي لم يدرس علم الطب ولا التشريح فأيقن أن هذا كلام من أرسل محمداً رسولا فآمن به وأسلم.
ومثل آخر لربان بحري كان يجول البحار ويشاهد أحوالها ومظاهرها ليلاً ونهاراً وما تتعرض له عن عواصف وسحب وأمواج متلاطمة ورياح عاتية وظلمات وغير ذلك مما كابده خلال سنين عمله في البحار والمحيطات
فإنه لما قرأ قوله تعالى: { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها } (سورة النور 40)
قال في نفسه إن أحدا لا يستطيع أن يصف هذا الوصف الدقيق لاحوال البحار وظواهرها الجوية إلا من كان بحارا شق عباب الماء وعاين تقلبات الاحوال فيه، وأن محمدا الذى نزل عليه هذا الكلام لم يكن في يوم من أيامه بحارا كما أنه لم يركب البحر في حياته وعاش في وسط الصحراء البعيدة كل البعد عن عالم البحار فمن أين له هذه المعلومات الدقيقة التى لا يعرفها سوى الملاحون؟
إنه ولا شك كلام عليم خبير وهو الله سبحانه فآمن وأسلم بأن محمدا رسول الله حقاً وصدقا.
وهناك شعوب أسلمت وآمنت بالقرآن بطريق غير مباشر ومن أمثلة هؤلاء سكان إندونيسيا وما حولها وسكان شرق قارة أفريقية ووسطها حيث نزل بساحتهم التجار العرب المسلمون الذين ذهبوا إلى هذه الجهات النائية للاتجار وتعاملوا مع أهلها معاملة كلها الصدق والامانة والوفاء ومكارم الاخلاق فراعتهم هذه الاخلاق السامية والمبادئ العالية التى كانوا عليها وعلموا أن مزاياهم الجميلة هذه هي من أثر القرآن وتعاليم الاسلام التى أكسبتهم هذه الفضائل والمكارم وصاغتهم هذه الصياغة الكريمة التى لا مثيل لها فيمن عرفوا من الناس فآمنوا بالاسلام دينا وبالقرآن معجزة لرسوله الكريم (صلوات الله وسلامه عليه).
بمثل هذه الآيات السالفة الذكر وآثارها في العقول والنفوس كان إيمان كثير من المسيحيين وغيرهم من الملل الأخرى من ذوي الألباب والفطن الذين ما كانوا يعرفون معنى الاعجاز البياني أو البلاغي في لغة القرآن وإنما عرفوا منه الاعجاز العلمي الذى وجدوه في كثير من الآيات العلمية
مثل قوله تعالى: { خلق الانسان من علق } { يخرج الميت من الحى ويخرج الحى من الميت } { وجعلنا الرياح لواقح } { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } { وإن من شئ إلا يسبح بحمده } { والسماء ذات الحبك } { لا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم }
وفي هذا ما يؤكد أن الكون هو كتاب الله الصامت، وآن القرآن هو كتاب الله الناطق بما يدل على علم الله بأسراره
وهذه الآيات وأمثالها لم يفهمها السلف الصالح على وجهها العلمي وإنما رأوا فيها أنها دلائل على قدرة الله تعالى وعظمته، وأنها شاهدة على أنه سبحانه بديع السماوات والارض، ولا شك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يتعرض في تفسيره لمثل هذه الآيات من الناحية العلمية التفصيلية التى هى فوق مستوى عقولهم فقد أمر الله نبيه أن يخاطب الناس على قدر عقولهم.
وقبل الكلام عن الاعجاز العلمى للقرآن يجب أن نعرف أن المعجزة هى أمر خارق للعادة يظهره الله على يد النبى تأييدا لنبوته، ومعجزات القرآن كثيرة ومتنوعة كان أبرزها عند نزولها الاعجاز البياني الذى تحدى به العرب أهل الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بشئ من مثله فعجزوا، وللقرآن إعجازات أخرى منها الاعجاز العلمي والاعجاز التشريعي والسياسي والحربي والنفسي وكلها شاهدة على روعة القرآن وعظمته وقدسيته وأنه كلام الله الحق.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز مطلقا أن نخضع القرآن للتفسير العلمي لان من نظريات العلم ما يتغير ويتطور ولا يثبت على حال، وإذا اختلفت النظرة العلمية في وقت من الاوقات مع الآية القرآنية فيرجع ذلك إلى أن العلم الذى يتطور من وقت لآخر لم يصل بعد إلى مستوى مفهوم الآية، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز:{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم }
أى أن ما لم يتفق مع الآية القرآنية من النظريات العلمية فإنه سوف يظهر مستقبلا بعد طول الدرس وللبحث والتنقيب لان كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم أنه سبحانه يقول عن القرآن:{ ثم إن علينا بيانه } أى أنه سوف يشرحه ويبين أسراره في مستقبل الاعصر والدهور.
مقارنة بين بعض ما جاء به القرآن وبين ما في الكتب السماوية الاخرى
إن القرآن الكريم فيه من العلوم والمعارف والمبادئ والآداب أضعاف أضعاف ما جاء في الكتب المقدسة السابقة، فالعهد القديم مثلا كان أكثر الكتب السماوية تناولا للناحية العلمية قبل القرآن، ونجده لم يتعرض إلا لثلاثة موضوعات فقط بإيجاز وهى: خلق الارض وخلق ما عليها من كائنات وبعض سير الانبياء من لدن آدم (عليه السلام) إلى أنبياء بني إسرائيل فقط، وكان تناوله لهذه الموضوعات محدودا، أما القرآن فقد تناول الحقائق الكونية وما يدور حولها من مظاهر ثم ما يتعلق بقصص الانبياء بصورة أصح وأدق بكثير عما جاء في الكتب السماوية الاخرى، كما أنه رسم الطريق الصحيح للبحث العلمى عن طريق النظر والتدبر والتأمل واستعمال الفكر القويم في فهم القرآن.
وعلى سبيل المثال ما ورد في التوراة عن نبي الله سليمان (عليه السلام) كان شيئا يحط من قدره ويصفه بأنه حاد عن طريق الايمان باستخدام الجن، واعتبرت خوارق المعجزات التى ظهرت على يديه من قبيل السحر، ولكن القرآن الكريم نفى عنه هذه التهم الباطلة نفياً باتاً
بقوله تعالى :{ وما كفر سليمان * ولكن الشياطين كفروا * يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } (سورة البقرة 102)
وشتان بين ما جاء به القرآن عن نبى معصوم وبين ما جاء في التوراة كتاب العهد القديم من قدح وذم في نبى كريم.
وفيما يلى طائفة من الآيات القرآنية ذات المدلولات العلمية التى لا شك مطلقا في توافق العلم معها توافقا تاما لا تناقض فيه لاثبات الاعجاز العلمي في آيات القرآن، وقد أتبعت في عرض هذه الآيات الخطوات الآتية
أولا: ذكر الآية ومكانها من القرآن الكريم.
ثانيا: التفسير الديني الوارد في كثير من التفاسير المعتبرة لرجال الدين.
ثالثا: التفسير بالرأي العلمي المطابق لاحدث ما وصل إليه العلماء من نظريات صحيحة متفقة مع القرآن.
رابعا: عرض مبسط لبعض مبادئ العلوم المتصلة بالآيات بأسهل أسلوب يفهمه القارئ العادي إذا لزم الامر ذلك لزيادة التأكيد بين صلة العلم بالقرآن.
ويجب ألا يغيب عن البال مطلقا أن الله سبحانه وهو خالق السماوات والارض وما فيهن هو الذى أنزل القرآن مبينا فيه علمه القديم بكل حقائقه وأسراره وأحكامه وظواهره وخوافيه، ويكفي للدلالة على ذلك قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والارض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } (سورة الحج 7)
وقد قلت في كتابى:(مع الله) في باب(كلام الله) بأسلوب الشعر المنثور ما يأتى: كلما سمعنا كلام الله يتلى حق تلاوته اهتزت منا النفوس تأثرا بروح معانيه وسمت بنا الروح تعرج إلى ملكوت الله متطلعة إلى الملا الاعلى ومعانيه.
وكأننا كلما سمعناه يتلى بخشوع نسمع جديدا من الوحى يسمو ويعلو في مراميه وكأن هذا الجديد منطلق لا يقف عند حد في قلوب السامعين المستغرقين فيه وهذا لون من الاعجاز لا تجده في غيره أبدا لانه لا شئ من القول يدانيه فأي كلام هذا الذى كلما تلوناه ووعيناه وجدناه أعمق وأوسع من مبانيه أنه كلام الله الحق، وكفاه شرفا أنه تنزيل من رب العالمين ولا ريب فيه.
والقرآن كلام الله القدسى والكتاب العلوي الذى أودعه الله أخبار الغابرين وجعل في قصصه مواعظ حسنة ودروسا قيمة وكلها ذكرى للذاكرين
وما فرط الله في القرآن من شئ يصلح شأن العباد في دنياهم والدين وقد دامت آياته الباهرة تتلى وهي تتألق بأنوارها في قلوب المؤمنين وقد سبقت علومه مستحدثات العلم والعلماء ولم يكونوا لها سابقين لان القرآن أتى بكليات العلوم دون تفصيل لها لانه كتاب شرع ودين لقد ظن البعض أن معجزة القرآن في بلاغته وفاتهم أنه كنز من العلم ثمين.
وقد أنزل الله في القرآن كل ما تحتاج إليه البشرية من دستور عالمي رشيد ووضح فيه بأسلوب عذب ما يسعد وما يشقى وما يضر الناس وما يفيد وحذر العباد من فتنة الدنيا وزينتها، وخوفهم من هول يوم القيامة الشديد وبين لهم فيه طرق الهدى بيانا يقبله العقل ولا حاجه بعده إلى مزيد فهو كتاب الله الذى يتمشى مع الفطرة السليمة وأنه عنها لا يحيد وهو بهذه الحقيقة يغزو القلوب التى آمنت به طوعا بغير ترهيب أو تهديد لانه كلام مشرق بنور الحق لا غموض فيه أبدا وفيه إقناع ومنطق سديد.
اسم الکتاب: القرآن وإعجازه العلمي