اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
آثار وخصوصيّات مقام الإخلاص -1- نتابع...
لزوم سير السالك في طريق رضوان الله
وعلی السالك أن يستمدّ العون من الالطاف الإلهيّة والإمدادات الرحمانيّة المطلقة لإضعاف حبّ الذات حتّي يزيله في النهاية؛ فعلیه أن يكفر بهذا الصنم الباطنيّ الذي هو رأس كلّ المفاسد وينساه كلّيّاً، بحيث تكون أعماله ـ عند التأمّل والتحقيق ـ كلّها للذات الإلهيّة المقدّسة، ويتبدّل حبّ ذاته إلی حبّ الله تعالى، ولا يتمّ هذا إلاّ بالمجاهدة، وبعد طيّ هذه المرحلة لن يكون للسالك أيّ تعلّق بالبدن وآثاره حتّي روحه التي تجاوزها، فيكون كلّ ما يعمله خالصاً للّه. فكلّ ما يعمله للّه، وإذا سدّ جوعه وهيّأ لوازم الحياة والعيش بقدر الكفاف والضرورة فذلك لانَّ المحبوب الازليّ يريد حياته وإلاّ لا يخطو خطوة من أجل تحقّق حياة هذه النشأة.
وبالطبع فإنَّ هذه الإرادة للحياة هي في طول الإرادة الإلهيّة لا عرضها؛ وعلی هذا الاساس لا يحقّ للسالك أن يسعي للحصول علی الكشف والكرامات، ويعمل من أجل تحقيقها، بواسطة الاذكار والرياضات الروحيّة من أجل أن تُطوي له الارض، أو يُخبَر عن المغيّبات، أو يطّلع علی الضمائر والاسرار، أو التصرّف في موادّ الكائنات، أو لاستكمال وبروز القوي النفسانيّة، لانَّ مثل هذا الشخص لا يسير في الدرب الذي يُرضي المحبوب، ولن يكون مخلصاً في عبادته فهو قد جعل نفسه المعبود، وسار لقضاء حاجاته وتحقيق رغباته الخاصّة، وإن كان لا يعترف بهذا المنكر فيؤدّي كلّ عباداته ـ علی الظاهر ـ في سبيل الله.
ومثل هذا الإنسان ينطبق علیه قوله تعالى :{ أَفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هواهُ }
فعلی السالك أن يجتاز هذه المرحلة، ويهجر نفسه المتمسّكة بالانانيّة
وعندما يصل السالك إلی هذه المرحلة سوف ينسي ـ تدريجيّاً ـ نفسه التي كان يحبّها للّه، فتضمحلّ ذاته، ولن يري بعد ذلك غير الجمال الازليّ والابديّ، فيغمره ذلك البحر اللامتناهي، وعندها لن يبقي له أيّ أثر.
وعلی السالك أن يحذر ـ في تلك الحرب النفسيّة ـ حيل الشيطان وجنوده، حتّى يتغلّب علیهم ويتخلّص من الآثار النفسيّة لذاته كاملاً، ويقتلع جذورها من الزوايا الخفيّة في القلب، فمع بقاء ذرّة واحدة من حبّ المال والجاه والمنصب والكبر وحبّ النفس والرئاسة فيه لن يصل أبداً إلی الكمال؛ ولهذا شُوهد الكثيرون من الذين قضوا سنوات طويلة في الرياضات والمجاهدات ولم يصلوا إلی الكمال، بل لاقوا الهزيمة في مجاهدة النفس؛ وعلّة ذلك أنَّ جذور بعض الصفات كانت باقية في أعماق قلوبهم وهم يظنّون أنـّها قد أُزيلت بالكامل، وفي مواقع الامتحان الإلهيّ وفي مظانّ بروز النفس وتجلّي آثارها تهتزّ هذه الجذور وتنمو فجأة فيُقضي علی السالك.
ثمّ إنَّ النجاح في غلبة النفس وجنودها منوط بالمدد الغيبيّ والعناية الإلهيّة الخاصّين، لانَّ طيّ هذه المرحلة لن يكون دون توفيقه وعنايته الخاصّينِ
يقال : إنَّ تلامذة المرحوم السيّد بحر العلوم رأوه يوماً وهو يبتسم، فسألوه عن السبب، فأجاب : اليوم، وبعد خمس وعشرين سنة من المجاهدة، نظرتُ في نفسي فرأيت أنَّ أعمالي لم يعد فيها رياء، وأنـّني وُفِّقْتُ لرفعه، فَتَأَمَّل جَيِّداً.
وعلی السالك أن يكون ملازماً للشريعة الغرّاء منذ بداية السير والسلوك وحتّي آخر مراحله، ولا يتجاوز ظاهر الشريعة بقدر رأس الإبرة. فلو رأيت شخصاً يدّعي السلوك ولا يلازم التقوى والورع ولا يتابع جميع الاحكام الشرعيّة الإلهيّة وانحرف عن الصراط المستقيم للشريعة الحقّة ولو بقدر رأس الإبرة، فاعلم أنـّه منافق إلاّ إذا كان له عذر أو كان مخطئاً أو ناسياً.
عبادة الكاملين تقتضي حصول كمالهم
وما سُمِعَ من البعض ـ من القول بسقوط التكاليف عن السالك بعد الوصول إلی المقامات العالية والفيوضات الربّانيّة ـ حديث كاذب وافتراء عظيم؛ لانَّ الرسول الاكرم (صلّى الله علیه وآله وسلّم) مع أنـّه أشرف الخلائق والموجودات كان ملازماً ومتابعاً للاحكام الإلهيّة حتّى آخر أيّام حياته، فسقوط التكليف ـ بهذا المعني ـ كذب وبهتان.
نعم، يمكن أن نفهم منه معني آخر غيرما يقصده هؤلاء، وهو: أنَّ أداء الاعمال العباديّة يوجب كمال النفوس البشريّة ويوصل الإنسان بواسطة الالتزام بالسنن العباديّة من مراحل القوّة إلی الفعلیّة
لهذا فإنَّ عبادة أُولئك الذين لم يصلوا بعد إلی مرحلة الفعلیّة من جميع الجهات هي لاجل الاستكمال، أمّا أُولئك الذين وصلوا إلی مرحلة الفعلیّة التامّة، فلا معنى لان تكون عبادتهم للحصول علی الكمال وتحصيل مقام القرب، بل العبادة من هؤلاء لها معنى آخر يقتضيه نفس حصولهم علی درجة الكمال؛ لهذا عندما سألت عائشة رسول الله (صلّى الله علیه وآله وسلّم) عن سبب تحمّله هذه الآلام والاتعاب في العبادة رغم أنَّ الله تعالى قال له :
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }
قال (صلّى الله علیه وآله وسلّم) : «أَلاَ أَكُونُ عبداً شكوراً؟»
فاتّضح بذلك أنَّ الإتيان بالاعمال العباديّة من البعض لم يكن طلباً للكمال، بل محض إظهار الامتنان والشكر الجزيل.
إنَّ الحالات التي تظهر للسالك علی أثر المراقبة والمجاهدة والانوار والآثار التي تُصبح مشهودة له من حين إلی آخر، كلّ هذه مقدّمة تحصيل الملكة، فمجرّد ترتّب الآثار وتغيّر الحال في الإجمال ليس كافياً، بل يجب علی السالك أن يسعى لرفع بقايا العالَم السافل الكامن في ذاته، فإنـَّه ما لم يسانخ صالحي العالم العالي لن يكون الوصول إلی مراتبهم ميسوراً له، فمن شأن أيّ خطأ صغير في السلوك والجهاد أن يعيده مجدّداً إلی العالم السافل
قال تعالى :{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ }
فالآية الكريمة تشير إلی هذه الحقيقة؛ إذَن ينبغي للسالك أن يُطهِّر ظاهره وباطنه كاملاً وكلّ زوايا وخفايا قلبه حتّي يوفّق لصحبة الارواح الطيّبة، ومجالسة صالحي الملأ الاعلی.
رسالة لب الألباب لسماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد حسين الحسيني الطهراني (قدس سره)
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين