اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين

وقال(عليه السلام): «إلهي ما ألذّ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب، وما أحلى المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب، وما أطيب طعم حبّك، وما أعذب شرب قربك! فأعذنا من طردك وإبعادك، واجعلنا من أخصّ عارفيك وأصلح عبادك وأصدق طائعيك وأخلص عبّادك»[25].
حقاً إنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) سيّد الموحّدين وزعيم العارفين بالله، ولم تكن عبادته تقليداً، وإنّما كانت ناشئة عن كمال معرفته بالله تعالى، وقد أعرب في النص المذكور عن كمال بغيته ألا وهو الإخلاص في عبادته سبحانه وتعالى.
وقال(عليه السلام): «إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء[26] والملاء[27] والليل والنّهار والإعلان والإسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنِسنا بالذكر الخفيّ، واستعملنا بالعمل الزكيّ والسعي المرضىّ.
أنت المُسبّح في كلّ مكان، والمعبود في كلّ زمان، والموجود في كلّ أوان، والمدعوّ بكلّ لسان، والمعظّم في كلّ جنان[28]، وأستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك، ومن كلّ راحة بغير اُنسك، ومن كلّ سرور بغير قربك، ومن كلّ شغل بغير طاعتك...»[29].
ويأخذنا الذهول حينما نقرأ هذا النصّ السجّادي الذي أعطانا فيه صورة واضحة متميّزة عن تضرّعه وتذلّله أمام الله سبحانه الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
إنّ المعرفة الحقيقية بأنّ الإنسان فقير إلى الله تعالى ـ كما جسّدته النصوص السابقة ـ تجعله يلتجئ إليه تعالى دائماً، ومن هنا نجد أنّ للإمام السجاد(عليه السلام) أدعية في أوقات وحالات متعدّدة بالإضافة إلى ما أوردناه، فله (عليه السلام) دعاء في الصلاة على محمّد وآله، وفي الصلاة على حملة العرش، وفي اللجوء إلى الله تعالى، وفي طلب الحوائج، وعند المرض، وفي مكارم الأخلاق، ولجيرانه، ولأوليائه، ولأهل الثغور، وفي الإستخارة، وفي التوبة، وإذا نظر إلى الهلال، وفي يوم عيد الفطر، وفي التذلّل، وعند الشدّة، وعند ذكر الموت، وفي الرهبة، وفي استكشاف الهموم.
وتجلّى من خلال الفصول السابقة أنّ سيرة الإمام زين العابدين(عليه السلام) جمعت له روح الثورة ضدّ الطغيان والحماس الجهادي إلى جانب المعرفة الإلهية الحقّة وشدّة التعبّد لله جلّ جلاله، فكانت سيرته(عليه السلام) توضيحاً للإجابة عن التساؤلات التي تثار عن إمكانية الجمع بين الدعاء والمناجاة من جهة والروح النهضوية والتضحوية من جهة اُخرى.
ولعلّ منشأ تلك التساؤلات هو توهّم البعض أنّ تفرّغهم للجهاد الأكبر ومجاهدة النفس والرياضات الشرعية والممارسات العبادية يغنيهم عن القتال والعمل الثوري والروح الجهادية باعتبارها جهاداً أصغر، إذ يغفلون عن حقيقة هي: أنّ القيام بالجهاد الأصغر هو أحد المحاور الأساسية للعمل بالجهاد الأكبر في إطاره الأوسع، وأنّ ترك الجهاد ناشئ في معظم الحالات عن هزيمة خفيّة في أحد ميادين الجهاد الأكبر، فالتلازم بين شدّة التقيّة وشدّة البأس أصيل، إذ يعبّر عن حقيقة شمولية الشريعة والدين الالهي الحنيف لكافة أبعاد حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.
فالمعرفة التوحيدية والنهضة صفتان واضحتان جسّدهما أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، إذ لم تخل سيرتهم أبداً من اجتماعهما، ويتّضح ذلك من خلال التمعّن في مناجاتهم(عليهم السلام) وخطبهم في ميادين الحرب ومواقفهم ضد الحكّام المنحرفين، ونلحظ ذلك عند الإمام السجّاد(عليه السلام) في روحه الجهادية الناهضة التي لاحظناها من خلال تصريحاته في الشام وفي مجلس يزيد بن معاوية وهو الأسير المكبّل بالسلاسل، والردّ الحاسم منه في دار الإمارة بالكوفة على من هدّده بالقتل بقوله: «أبالقتل تهدّدنا وإنّ كرامتنا الشهادة»[30] إنّ هذه الروح هي التي نطقت بأدعية الصحيفة السجادية وبالمناجاة الخمس عشرة[31]، وفي هذا خير شاهد على اجتماع روح الحماسة وروح الدعاء والمناجاة والعبادة.
وهذه الحقيقة أدّت بدورها إلى أن تَحمل أدعية الإمام(عليه السلام) جوانب سياسية، وجهادية، واجتماعية، وأخلاقية، إلى جوار جوانبها العقائدية والمعرفية والعبادية، فكانت ذات أهداف تغييرية شاملة.
لقد كانت للأدعية السجادية أبعاد فكرية واسعة المدى بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنص قاطع، بعد أن عصفت بالعقيدة تيارات الإلحاد كالتشبيه والجبر والإرجاء وغيرها ممّا كان الاُمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل، تمهيداً للردّة عن الإسلام والرجوع إلى الجاهلية الاُولى.
وفي حالة القمع والإبادة ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار وتتبّع آثارهم وخنق أصواتهم كان قرار الإمام زين العابدين(عليه السلام) باتّباع سياسة الدعاء أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وأأمَن طريقة وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة، وأقوى أداة اتّصال سرّية مكتوبة هادئة موثوقة[32].
جعلنا الله واياكم ممن يحظون بنظره عطوفه من امام زماننا المهدي الموعود
وتشملنا العنايه الربانيه والنظره المحمديه للتوفيق والجهاد بين يدي القائم عليه السلام
نسألكم الدعاء

[26] الخلاء: المكان الفارغ الذي ليس فيه أحد.
[27] الملاء: اجتماع الناس.
[28] جَنان: القلب.
[29] مناجاة الذاكرين.
[30] نفس المهموم، المحدّث القمي: 408.
[31] راجع الفصل الخاصّ بتراثه(عليه السلام).
[32] جهاد الإمام السجّاد: 224 ـ 225.
أعلام الهداية الإمام (ع)