اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1- كيف ينظر الإسلام إلى مستقبل البشريّة؟
2- هل انتظار الفرج من مختصات المذهب الشيعيّ؟
3- ما هي أهمّ خصائص نهضة المهديّ عجل الله تعالى فرجه؟
4- كيف ننتظر الفرج؟
5- هل نشر الفساد من العوامل المساهِمة في تعجيل الفرج؟
6- كيف يمكن لانتظار الفرج أن يكون من أفضل العبادات؟
v الإسلام يبعث الأمل في المستقبل
يُجمع المسلمون، مع اختلاف طفيف، على حتميّة انتصار قوى الحقّ في صراعها مع قوى الباطل، كما ويُجمعوا على أنّ هذا الانتصار يتمّ على يد شخصيّة مقدّسة أطلقت عليها الروايات اسم "المهدي" عجل الله تعالى فرجه.
وتنطلق هذه الفكرة بالأساس من مفاهيم القرآن الكريم الذي يؤكّد على حتميّة انتصار رسالة السماء1، وعلى حتميّة انتصار المتقين والصالحين2، وانهزام قوى الظلم والطغيان3، ثمّ بزوغ فجرٍ مشرقٍ سعيدٍ على البشريّة4.
كما يمكن استفادة ذلك من مفهوم آخر يطرحه القرآن وهو "حرمة اليأس من رَوْح الله"5.
وهذا الأمل مذكو أيضاً في الروايات الإسلاميّة بعبارة "انتظار الفرج"، وقد عُدّ فيها من أفضل العبادات6.
وحصيلة هذه الفكرة هي نظرة تفاؤليّة تجاه مسيرة التاريخ، نظر تبعث الأمل في المستقبل، ومؤدّاها أنّه مهما قست الظروف فإنّ المؤمن لا يستسلم لليأس ولا يفقد الأمل بالنصر الإلهيّ الموعود، إذ هو على موعدٍ مع فرجٍ متوقعٍ في نهاية المطاف.
v البشرى للعالم أجمع
يحمل مفهوم "انتظار الفرج" البشرى للبشريّة جمعاء، فلا يختصّ بفرد معيّن أو جماعة محدّدة، إذ تمثّل مسألة نهضة المهدي عجل الله تعالى فرجه قضيّة اجتماعيّة وفلسفيّة كبرى لها خصائص وعناصر ذات أبعاد عالميّة، خصائص ثقافيّة تربويّة كما هي سياسيّة اقتصاديّة واجتماعيّة...
نشير إلى بعض هذه الخصائص باختصار:
أ- تتجه البشريّة نحو مستقبل مشرق تُجتثّ فيه جذور الظلم والفساد من منابتها. وهذا مما يبعث على التفاؤل في مستقبل البشريّة، ويقع ذلك في مقابل نظريّتين:
تعتقد الأولى أنّ الشرّ والفساد والتعاسة صفات ملازمة للحياة الإنسانيّة، وعليه فإنّ أفضل ما يمكن أن يقوم به الإنسان هو وضع حدّ لهذه الحياة.
وتؤمن الثانية بأنّ البشريّة، وبفعل تطوّرها وتقدّمها في صنع وسائل الدمار والخراب، تحفر قبرها بيدها، وبذلك فهي تسير نحو الانهيار والسقوط.
ب- ستنتصر قوى الحقّ والتقوى والسلام والعدل والحريّة على قوى الظلم والاستكبار والاستعباد، وستُقتلع جذور الفساد.
ج- ستقوم حكوم عالميّ واحدة، تجمع تحت ردائها جميع الفئات والمجموعات البشريّة.
د- ستعمر الأرض وتُستغلّ ثرواتها، وتستثمر ذخائرها إلى أقصى حدّ ممكن. وبالإضافة إلى ذلك ستحلّ المساواة بين البشر في مجال توزيع هذه الثروات.
هـ- ستبلغ البشريّة حدّ التكامل والنضج، حيث يتّخذ الإنسان سبيل العقل متحرّراً من أغلال الشهوات والظروف الطبيعية والاجتماعيّة، وتحصل المواءمة بين الإنسان والطبيعة، وتخلو النفوس من العقد والأحقاد.وتحتاج هذه النقاط إلى تحليل ودراسة أكثر تفصيلاً لا يتسع لها بحثنا هذا.
v كيفية انتظار الفرج(الانتظار الكبير)
هناك نوعان من انتظار الفرج:
الأوّل: الانتظار الهدّام
وهو الانتظار الذي يبعث على الخمول والكسل ويؤدّي إلى شلّ حركة الإنسان ويقِّيد طاقاته.
يبني هذا الانتظار تصوّره لنهضة المهدي على أساس أنها مجرّد انفجار ينجم عن انتشار الظلم والفساد وشيوعهما في البلاد. فبحسب هذه النظرة إنّ مسيرة البشريّة تحثّ خطاها نحو انعدام العدل واستفحال الباطل، وهي متى تصل في انحدارها إلى نقطة الصفر فستمتدّ يد الغيب لقلب الطاولة على عقبها وإنقاذ الحقّ.
ولذلك لا يرى أصحاب هذه النظرة لأنصار الحقيقة أيّ دور في عمليّة نهضة المهدي عجل الله تعالى فرجه، بل على العكس لكي يظهر المهدي فلا بدّ من أن يزول أنصار الحقّ نهائيّاً.
من هنا يدين هؤلاء كلّ إصلاح في المجتمع، على اعتبار أنّه يؤخّر الإمداد الغيبيّ الموعود، فيما يعتبرون أنّ من الأمور التي تساهم في تسريع ظهور المهديّ مسألةَ إشاعة الفساد، وعلى هذا فإشاعة الفساد أمر مطلوب بل من أفضل أنواع انتظار الفرج ولو من باب "الغاية تبرّر الوسيلة".
لذلك يرى أصحاب هذا التصوّر ينظرون إلى المصلحين والمجاهدين بعين الحقد والعداء، فإنّ هؤلاء المجاهدين طبقاً لهذه النظرة عامل سلبيّ يساهم في تأخير الظهور.
والذين يتبنّون هكذا نوع من الانتظار، إن لم ينضمّوا إلى زمرة العاصين عملاً فإنّهم يتطلّعون إلى أصحاب المعاصي بعين الارتياح والرضا باعتبار أنّهم الممهّدون لظهور القائم المنتظر عجل الله تعالى فرجه.
v الانتظار الهدّام والاتجاه الديالكتيكيّ7
ولذا فقد يتوافق هذا النوع من الانتظار والاتجاه الديالكتيكيّ في بعض النتائج، فهو يشاركه في معارضة الإصلاحات، بناءً على أنّها تؤخّر في عمليّة الوصول إلى المرحلة الأسمى، وفي التأكيد على ضرورة تشديد الفوضى وإشاعة الفساد، فيرتئي كالاتجاه الديالكتيكيّ زيادة الظلم والفساد للوصول إلى النتيجة المطلوبة، وهي الوصول إلى الانفجار المقدّس8. وعلى قاعدة "الغاية تبرّر الوسيلة"، تستحقّ هذه الحركات معارضة الإصلاح، وإشاعة الفساد، وفق هذا التصوّر، عنوان النضال المقدّس.
نعم، هناك فارق بينهما، فإنّ هدف الاتجاه الديالكتيكي من تعميق الفجوات والتناقضات هو تصعيد النضال والجهاد، فيما يفتقد هذا التفكير المبتذل في مسألة انتظار المهدي لحركة الجهاد والعمل، وينتظر بعد نشر الفساد الوصول إلى النتيجة المطلوبة تلقائياً، بلا أيّ جهد يُبذل9.
v تقييم هذا الانتظار
وعلى كلّ حال، وبغضّ النظر عن عدم صوابيّة هكذا نظرة إلى تكامل التاريخ، فإنّ هذا الانتظار الهدّام وهذا التصوّر يتخطّى مجموعة من الحدود والأحكام والمفاهيم الإسلاميّة ويؤدّي إلى تعطيلها10، فلا يتلاءم مع النظرة القرآنيّة ولا مع الموازين الإسلاميّة، ولذا لا يمكن تبنّيه بأيّ شكل من الأشكال، بل هكذا انتظار يمكن اعتباره انتظاراً محرّماً.
الثاني: الانتظار المثمر البنّاء
يأخذ هذا الانتظار منحىً معاكساً للانتظار الهدّام، فهو يبثّ في كيان المنتظِر قوّة تدفعه نحو التحرّك والعمل والجهاد، وهو يعتقد بأنّ لإرادة المنتظِر دوراً أساسيّاً في حصول الفرج ووصول تكامل التاريخ إلى أسمى نقاطه، وبالتالي فهو يؤمن بالإنسان وقدراته.
ويعتمد هذا التفكير في فهمه لزمان وحقيقة الظهور على:
أنّ ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه يمثِّل آخر حلقة من حلقات الصراع الدائم بين أهل الحقّ وأهل الباطل، وعليه فلا بدّ من استمرار مقارعة قوى العدل والخير لقوى الظلم والشرّ، ومن دوام الصراع بين الحق والباطل.
ويلعب النشاط الإنساني دوراً أساسيّاً في تحقّق الظهور،حيث يساهم أهل الحقّ في تحقيق الانتصار، ولهم دور أساس في عمليّة ما بعد الظهور، فليست مسألة الظهور مجرّد امتداد لليد الغيبيّة عند وصول انحدار البشريّة إلى نقطة الصفر، حتى ينتفي أيّ دور لمثل هؤلاء الصالحين.
وبناءً عليه فالفرد الذي يهمّه المشاركة والتمهيد للظهور فلا بدّ أن يكون منتمياً إلى أهل الحقّ الممهّدين الواقعيين للمهدي، وليس أهل المعاصي والفساد!
v أدلّة هذا النوع من الانتظار
يستند هذا الفهم لكيفية الانتظار إلى الآيات القرآنيّة والروايات التي تشير إلى أنّ المهديّ هو مظه لحتميّة انتصار قوى الحقّ في صراعها مع الباطل، وتجسي لآمال المؤمنين العاملين، فتشكل هذه الآيات والروايات أرضيّة هذا التفكير، فكيف ذلك؟
إن الروايات والآيات قد ركّزت على وجود فئة أهل الحق في عصر الظهور... بل إنّ الموعودين بالاستخلاف في الأرض والمنتصرين في حركة المهديّ، هم خصوص المؤمنين العاملين بالصالحات، كما في الآية الشريفة: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾11.
وهذا الوعد للعاملين الصالحين جارٍ في جميع الكتب السماويّة: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾12.
فظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه لا يستهدف ملء الأرض إيماناً وتوحيداً وصلاحاً فحسب، بل يستهدف نصرة أهل الحقّ والفئة المظلومة وإنقاذهم.
وعليه فلا بدّ أن يستمرّ الصراع فتكون هناك فئة يستضعفها أهل الظلم والتجبّر، فيمنّ الله عليها بظهور المهديّ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾13.
وتحدّثت الروايات عن أنّ نخبة من المؤمنين ستلتحق بالمهدي فيكونون من أنصاره.
وإذا كان لا بدّ من نخبة في ذلك الزمان فلا نشكّ بضرورة وجود أرضيّة صالحة تستمرّ على مرّ الأيّام تؤمّن هذه النخبة وتربّيها، وهذا لا يتمّ بنشر الفساد والحقد على المصلحين والعاملين!
- بل تشير الروايات إلى سلسلة نهضات تسبق ظهوره، كنهضة اليمانيّ.
وهذه النهضات لا يمكن أن تنطلق من ساكن ومن العدم، بل لا بدّ أنّها تندرج في سلسلة الصراع بين أهل الحقّ وأهل الباطل.
- وأكثر من ذلك، ليست نهضة المهديّ عجل الله تعالى فرجه متوقّفة على وجود فئة ونخبة من أهل الحقّ ونهضاتهم فحسب، بل لا بدّ من أن يشيّدوا دولة لهم تسبق ظهوره.
فقد أشارت بعض روايات عصر الظهور إلى أنّه في ذلك العصر تقوم دولة للحقّ تستمرّ حتى ظهوره14.
وهذا أيضاً من الدلائل على أنّ الظهور لا يقترن بفناء الجناح المناصر للحقّ، بل بانتصارٍ أوليّ لجناح العدل والتقوى على جناح الظلم والفساد.
كل هذا يؤكّد على ضرورة استمرار صراع الحقّ وأنصاره مع الباطل وأهله، ليُختتم ذلك بظهور المهديّ منقذاً لأنصار الحقّ وناصراً لهم، فيكون هذا الظهورُ المبارك الحلقةَ الأخيرةَ من حلقات الصراع الطويل بين الحق وبين الباطل، وبذلك يجسّد ويحقّق أهداف الأنبياء والصالحين والمجاهدين.
والانتظار المثمر البنّاء الذي يبني تصوّره على هذا الأساس، والذي يدعو إلى العمل والجهاد والدفاع عن الحقّ هو الانتظار الذي يستحقّ أن يكون أفضل عبادة أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله15.
v إشكال البعض بالحديث المعروف عن الانتظار
يشتبه البعض في فهم الحديث المعروف، والذي يتحدّث عن عصر الظهور، حيث رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لو لم يبقَ من الدنيا إلا ساعة واحدة لطوّل الله تلك الساعة حتى يخرج رجل من ذريّتي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"16.
فيفهم منه بأنْ لا وجود لأنصار الحقّ في زمن الظهور، بل ذلك الزمان هو زمان خلت الأرض من أنصار الحقّ،
وامتلأت بأنصار الظلم والفساد17.
ثم يرتّب على ذلك آثاره، من ضرورة إشاعة الفساد والنظر بحقدٍ إلى المصلحين والمجاهدين باعتبارهم عاملاً يؤخّر عملية الظهور وفقاً لهذا الحديث، كما مرّ في الانتظار الهدّام.
لكن وبالتأمّل في هذا الحديث، نجده يجعل محورَ حصول الظهور مسألةَ الظلم والجور. ووجود الظلم والجور يستدعي وجود فئة مظلومة تناصر الحق، وبذلك تستحقّ النصرة الإلهيّة في بظهور المهديّ.
نعم، لو لم يركّز هذا الحديث على مفهوم الظلم بأن أشار إلى مفاهيم من قبيل الفساد والكفر والشرك لكان من الممكن استفادة أن نهضة المهديّ تقترن بفناء الجناح المناصر للحقّ والعدل والإيمان... أما وأنّه قد أشار إلى مسألة الظلم والجور، فهذا يعني أنّ نهضة المهديّ الموعود تستهدف إنقاذ أنصار الحقّ المظلومين ولو كانوا قلّة، لا إنقاذ الحق المسحوق فقط.
ولذلك نجد أنّ بعض أحاديث الظهور يدور حول حقيقة
بلوغ كلّ شقيّ وكل سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الأشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة، كما في الحديث المرويّ في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: "يا منصور، إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس ولا والله حتّى تُميّزوا، ولا والله حتى تُمحّصوا، ولا والله حتى يَشقى من يشّقى يسّعد من يسعد"18.
فهذا الحديث هو خير شاهد على ضرورة وجود أنصار للحقّ بشكل دائم وبالتالي على صحّة الفهم الإيجابيّ والبنّاء لمفهوم الانتظار، ولا يساعد مدّعى أرباب الانتظار الهدّام، بل يكون دليلاً إضافيّاً على بطلان ما ذهبوا إليه!
الخلاصة
1- يُجمع المسلمون على أنّ مستقبل التاريخ هو مستقبل مشرق، حيث ستظهر شخصيّة باسم "المهديّ" تحقّق الانتصار لقوى الحقّ على قوى الباطل في الجولة الأخيرة من الصراع، وهذا هو الفرج الذي وعدت به جميع الكتب السماويّة، وجُعِل انتظاره من أفضل العبادات. وبذلك يبعث الإسلام الأمل في مستقبل البشريّة، فتكون نظرته تفاؤلية بخلاف بعض الرؤى التشاؤميّة لمستقبل التاريخ.
2- إنّ الفرج الذي يبشّر به الإسلام هو بشرى لجميع الفئات الإنسانيّة في هذا العالم، فلا يختصّ بفئة معيّنة.
3- تمثِّل مسألة نهضة المهديّ عجل الله تعالى فرجه قضيّة تتمتّع بخصائص فلسفيّة وإجتماعيّة كبرى، فإنّ لهذه النهضة خصائص ثقافيّة وتربويّة فضلاً عن السياسيّة والاقتصاديّة...
4- هناك نوعان من الانتظار:
الأول: الانتظار الهدّام
وهو انتظار يبعث على الخمول والكسل ويدعو إلى عدم العمل، حيث لا يرى لأنصار الحقّ والمصلحين العاملين أيّ دورٍ في عمليّة الظهور، بل بنظره إنّ المجاهدين والمصلحين يشكلون عاملاً مساهماً في تأخيره، لذا يدين أصحاب هكذا تصوّر الإصلاحات، فيما ينظرون إلى انتشار الفساد والظلم بعين الارتياح والرضا، فهذه الأمور بنظرهم هي التي تعجّل في حصول الفرج. فهؤلاء يرَون أنّ عمليّة الظهور هي عمليّة انقلاب الأوضاع التي وصلت إلى نهاية الانحدار والفساد فتحلّ مكانها الحكومة المهدويّة.
وهو بذلك يشترك في نظرته للتاريخ مع الاتجاه الديالكتيكيّ في عنصره الأساسيّ، وهو قيام تكامل التاريخ على صراع التناقضات، وفي مجموعة من نتائجه من ضرورة تشديد الفوضى وإشاعة الفساد، ومعارضة الإصلاحات.
وهذا الانتظار مخالف للتعاليم الإسلامية والمفاهيم القرآنية، ولذا لا يمكن الالتزام به.
الثاني: الانتظار البنّاء
وهذا الانتظار يدعو إلى العمل والجهاد والإصلاح ونصرة الحقّ، واتباع أحكام مفاهيم الإسلام في كلّ زمان ومكان، ويعطي دوراً أساسيّاً لإرادة الإنسان في عملية تكامل التاريخ.
وهو يقوم على أساس ضرورة استمرار صراع الحقّ مع الباطل، مع إعطاء دور أساس لأنصار الحق في مسألة التمهيد للمهديّ عجل الله تعالى فرجه.
ويستند هذا الانتظار إلى الآيات والروايات، ويراعي مفاهيم وتعاليم الإسلام الصالحة لكلّ زمان ومكان.
هوامش
1- (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(التوبة: 33، الصف: 9).
2- (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(لأنبياء: 105).
3- (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(القصص: 5-6).
4- (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)( الأعراف: 138).
5- كما في الآية الشريفة: (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف: 87).
6- عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج..."(كمال الدين، الصدوق، ج2).
7- الاتجاه الديالكتيكيّ أو الآليّ: ينطلق هذا الاتجاه في تفسيره لتكامل التاريخ على أساس الصراع بين المتناقضات، بعد الإيمان بأنّ أجزاء الطبيعة هي في ترابط وثيق وحركة دائمة. ويتمّ التكامل في الطبيعة، وفق هذا الاتجاه، على الشكل التالي:
أ- تحمل كلّ ظاهرة في أحشائها نقيضها. ب- ينمو النقيض شيئاً فشيئاً وعندما يصبح قادراً على مواجهة الظاهرة ينشب صراع بينهما ينتهي بثورة يقلب النقيض فيها الأوضاع لصالحه حيث يحلّ محلّ تلك الظاهرة. ج- ثم يقوم هذا النقيض بطيّ المراحل ذاتها، وهكذا...
بناءً عليه فالطبيعة ليست هادفة، إذ ليس منشأ تكاملها سوى الصراع الحتميّ بين المتناقضات. وأمّا بالنسبة للتاريخ والمجتمع، فإنّ هذا الاتجاه يعتبر أنّ العامل الرئيس الذي يقوم بتشييد المجتمع ويؤثر في حركته وتكامله، هو العامل الاقتصاديّ الإنتاجيّ.
فالعامل الإنتاجيّ يوجِد علاقات اقتصاديّة بين أفراد المجتمع، تنبثق عن هذه العلاقات بقية العلاقات الاجتماعيّة الأخرى وهكذا يتشيّد المجتمع. أمّا تكامل المجتمع فهو يتمّ وفق صراع التناقضات وتحت تأثير تطوير العوامل الإنتاجية والآليّة، ووفق مراحل الطبيعة نفسها بما أنّه جزء من أجزاء الطبيعة.
8- وذلك عندما تبنى أصحاب هذا التصوّر أنّ المهديّ إنما يظهر عندما يصل الانحدار إلى نقطة الصفر، فحينها تنقلب ظاهرة الفساد وبفضل يد العون الإلهيّة الغيبيّة ويحلّ محلّها الحق والعدل والسلام...
9- راجع الهامش السابق.
10- فإنّ الدين الإسلاميّ، الذي هو دين صالح لكلّ زمان ومكان، وتعاليمه جارية حتى في عصر الظهور، يؤكّد على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر دين الحق و الجهاد في سبيل الله، بل هذه المفاهيم هي من أهم مفاهيم الإسلام التي لا يجوز التهاون فيها. بل يُخالف هذا التفكيرالآيات الصريحة التي تدعو الإنسان على الأقلّ إلى أن يتألم قلبه عند رؤية المعاصي وتعِدُ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ...)(النور: 19).
11- النور: 55.
12- الأنبياء: 105.
13- القصص: 5.
14- وهذا الأمر هو الذي جعل بعض العلماء يحسنون الظنّ بدول بعض السلالات الحاكمة، حيث ظنّوها بأنّها هي الدولة التي ستحكم حتى ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه.
15- وهو الحديث الذي أشرنا إليه سابقاً، عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج...".
16- النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد، ص: 44(دار المفيد، ط 2).
17- ولعلّ منشأ الخطأ في فهم هذا الحديث هو عدم الالتفات إلى أنّ الحديث إنّما يقول: "ملئت ظلماً" ولا يقول "ملئت ظالمين". وبالالتفات إلى هذا الأمر نجد أنّه لا يمكن استفادة "عدم وجود أنصار الحقّ" في زمن الظهور منه بأيّ شكل من الأشكال!
18- أصول الكافي، ج1، كتاب الحجّة باب التمحيص والإمتحان ح3.
الكتاب: إنتظار المهدي(عج)
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين