اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نُصادِفُ في حَياتِنا اليَوْمِيَّةِ أُناساً مُهَذَّبينَ مُؤَدَّبينَ، يَزِنُونَ كَلِماتِهِمْ قَبْلَ إِطْلاقِها حِرْصاً عَلى مَشاعِرِ الآخِرينَ وَعَدَمِ أَذِيَّتِهِمْ، كَذَلِكَ نُصادِفُ القَليلي الأَدَبِ الوَقِحينَ، الّذين لا يُبالون في صورَةِ كَلامِهِمْ وَسُلوكِهِمْ، وَتَنْكَشِفُ شَخْصِيَّتُهُمْ بِما يُطْلِقُهُ لِسانُهُمْ، لِأَنَّ «الـمَرْءَ مَخْبوءٌ تَحْتَ لِسانِهِ».
وَلَيْسَ سَهْلاً يَسيراً أَنْ يَرْتَقِيَ الإِنْسانُ إِلى مَعالي الأَخْلاقِ دونَ مُجاهَدَةِ النَّفْسِ، وَدونَ بَذْلِ ما بِوسْعِهِ للتَّخَلُّصِ مِنْ عاداتٍ سَيِّئَةٍ اكْتَسَبَها مِنْ مُحيطِهِ، فَعَنِ الإِمامِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السّلامُ أَنَّهُ قالَ:«النَّفْسُ مَجْبولَةٌ عَلى سوءِ الأَدَبِ، وَالعَبْدٌ مَأْمورٌ بِمُلازَمَةِ حُسْنِ الأَدَبِ، وَالنَّفْسُ تَجْري في مَيْدانِ الـمُخالَفَةِ، وَالعَبْدُ يَجْهَدُ بِرَدِّها عَنْ سوءِ الـمُطالَبَةِ، فَمَتى أَطْلَقَ عَنانَها فَهُوَ شَريكٌ في فَسادِها، وَمَنْ أَعانَ نَفْسَهُ في هَوى نَفْسِهِ، فَقَدْ أَشْرَكَ نَفْسَهُ في قَتْلِ نَفْسِهِ».
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عِدَّةُ أَحاديثَ حَوْلَ تَأْديبِ النَّفْسِ، مِنْها
- تَوَلَّوْا مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْديبَها، وَاعْدِلوا بِها عَنْ ضَراوَةِ عاداتِها.
- ذَكِّ قَلْبَكَ بِالأَدَبِ كَما تُذَكّى النّارُ بِالحَطَبِ، وَلا تَكُنْ كَحاطِبِ اللَّيْلِ وَغُثاءِ السَّيْلِ.
- إِذا رَأَيْتَ في غَيْرِكَ خُلُقاً ذَميماً فَتَجَنَّبْ مِنْ نَفْسِكَ أَمْثالَهُ.
- وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُها أَحَقُّ بِالإِجْلالِ مِنْ مُعَلِّمِ النّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ.
- أَفْضَلُ الأَدَبِ ما بَدَأْتَ بِهِ نَفْسَكَ.
- مَنْ كَلِفَ بِالأَدَبِ قَلَّتْ مَساويهِ.
- سَبَبُ تَزْكِيَةِ الأَخْلاقِ حُسْنُ الأَدَبِ.
وَلَيْسَ الأَدَبُ الجَمُّ وَالأَخْلاقُ الحَميدَةُ شِعارَ الضُّعفاءِ، وَسِلاحَهُمُ الوَحيدُ بِوَجْهِ الأَقْوياءِ الّذينَ يَمْلِكونَ مَصادِرَ القُوَّةِ فَلا يَحْتاجونَ إِلى الأَدَبِ وَالأَخْلاقِ في حَياتِهِمْ، إِنَّما الأَدَبُ حاجَةٌ إِنْسانِيَّةٌ وَضَرورَةٌ اجْتِماعِيَّةٌ، دونَهُ تَطْغى النَّزْعَةُ الحَيوانِيَّةُ عِنْدَ الإِنْسانِ، فَيَخْتَلُّ التَّعامُلُ بَيْنَ النّاسِ.
وَعِنْدَما مَدَحَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ الأَكْرَمَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قالَ لَهُ:﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة القلم: 4) وَفي هذا قالَ الإِمامُ الصّادِقُ عَلَيْهِ السّلامُ: «إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّهُ فَأَحْسَنَ أَدَبَهُ، فَلَمّا أَكْمَلَ لَهُ الأَدَبَ قالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ الدّينِ وَالأُمَّةِ لِيَسوسَ عِبادَهُ». أَمّا الأَحاديثُ الشَّريفَةُ، فَقَدْ حَثَّتْ الإِنْسانَ عَلى حُسْنِ الأَدَبِ، بَعْدَ أَنْ كانَ حَسَبُه وَنَسَبُهُ في الجاهِلِيَّةِ يَطْغَيانِ عَلى خِصالِهِ الحَميدَةِ والذّميمَة، وَلَـمّا جاءَ الإِسْلامُ، دَفَعَ بِالأَدَبِ وَحُسْنِ الخُلُقِ إِلى الأَمامِ.
وَهُنا جُمْلَةٌ مِنَ الأَحاديثِ الوارِدَةِ حَوْلَ ذَلِكَ:
- بِئْسَ النَّسَبُ سوءُ الأَدَبِ.
- لا شَرَفَ مَعَ سوءِ أَدَبٍ.
- فَسَدَ حَسَبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَدَبٌ.
- مَنْ وَضَعَهُ دَناءَةُ أَدَبِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ شَرَفُ حَسَبِهِ.
- مَنْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلُ خِلالِهِ أَدَبَهُ كانَ أَهْونُ أَحْوالِهِ عَطَبَهُ.
- مَنْ قلَّ أَدَبُهُ كَثُرَتْ مَساويهِ.
- لَيْسَ شيْءٌ أَحْمَدَ عاقِبَةً وَلا أَلَذَّ مَغَبَّةً وَلا أَدْفَعَ لِسوءِ أَدَبٍ وَلا أَعْوَنَ عَلى دَرَكِ مَطْلَبٍ مِنَ الصَّبْرِ.
- ضَبْطُ النَّفْسِ عِنْدَ الرَّغْبِ وَالرَّهْبِ مِنْ أَفْضَلِ الأَدَبِ.
فَالأَخْلاقُ الحَميدَةُ وَجَبَ أَنْ تَتَلازَمَ مَعَ تَعاليمِ الدّينِ، فَمِنْ غَيْرِ الـمَقْبولِ أَنْ يَكونَ الإِنْسانُ مُتَدَيِّناً يَتْلو كِتابَ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَّهارِ وَأَنْ يَكونَ سَيِّءَ الأَدَبِ يَتَحاشاهُ النّاسُ لِقِلَّةِ أَدَبِهِ، وَحِدَّةِ لِسانِهِ، فَعِنْدَما بَعَثَ رَسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَعاذَ بْنَ جَبَلٍ(ت 18هــ/ 639م) إِلى اليَمَنِ، قالَ لَهُ:«يا مَعاذُ، عَلِّمْهُمْ كِتابَ اللهِ، وَأَحْسِنْ أَدَبَهُمْ عَلى الأَخْلاقِ الصّالِـحَةِ». وَلَـمّا نَزَلَتْ ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ (سورة طه:131) أَمَرَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مُنادِياً يُنادي:«مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِأَدَبِ اللهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلى الدُّنْيا حَسَراتٍ».
وكان الإِمامُ عليٌّ عَلَيْهِ السّلامُ يَقولُ:«مَنْ تَأَدَّبَ بِآدابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ آداهُ إِلى الفَلاحِ الدّائِمِ». وعَنْهُ عَلَيْهِ السّلامُ:«مَنْ لَمْ يَصْلُحْ عَلى أَدَبِ اللهِ لَمْ يَصْلُحْ عَلى أَدَبِ نَفْسِهِ».
وَكانَتْ وَصِيَّةُ الباقِرِ لابْنِهِ الصّادِقِ عَلَيْهِما السَّلامُ، تَجَنُّبَ مُعاشَرَةِ الإِنسانِ السَّيِّءِ، فَقالَ لَهُ: «يا بُنَيَّ مَنْ يَصْحَبْ صاحِبَ السّوءِ لا يَسْلَمُ، وَمَنْ لا يُقَيِّدْ أَلْفاظَهُ يَنْدَمْ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَداخِلَ السّوءِ يُتَّهَمْ».
وَسوءُ الأَدَبِ يُؤَدّي بِالإِنْسانِ إِلى عاداتٍ سَيِّئَةٍ كَالكَذِبِ، وَلِهَذا قالَ الإمامُ عليٌّ عَلَيْهِ السّلامُ:«تَحَرّي الصِّدْقِ، وَتَجَنُّبُ الكَذِبِ، أَجْمَلُ شيمَةٍ وَأَفْضَلُ أَدَبٍ»، وَكانَ يَقولُ:«لا أَدَبَ لِسَيِّءِ النُّطْقِ».
وَتَعْويدُ الإِنْسانِ عَلى الأَدَبِ الحَسَنِ وَالأَخْلاقِ الحَميدَةِ يَبْدَأُ مِنَ الصِّغَرِ، وَالأَحاديثُ الوارِدَةُ حَوْلَ ذَلِكَ كَثيرَةٌ، مِنْها قَوْلِ رَسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «أَكْرِموا أَوْلادَكُمْ وَأَحْسِنوا آدابَهُمْ يُغْفَرْ لَكُمْ». وَقالَ الإِمامُ عليٌّ للحَسَنِ عَلَيْهِما السَّلامُ :«إِنّما قَلْبُ الحَدَثِ كَالأَرْضِ الخالِيَةِ ما أُلْقِيَ فيها مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ، فَبادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ». أَمّا لُقْمانُ الحَكيمُ، فَقالَ لابْنِهِ:«يا بُنَيَّ! إِنْ تَأَدَّبْتَ صَغيراً انْتَفَعْتَ بِهِ كَبيراً».
وَعِنْدَما شَكا بَعْضُهُمْ إِلى موسى الكاظِمِ عَلَيْهِ السَّلامُ ابْناً لَهُ، قالَ: لا تَضْرِبْهُ، وَاهْجُرْهُ وَلا تُطِلْ.
أَمّا خارِجَ نِطاقِ الأُسْرَةِ، فَإنّا نَلْحَظُ في الأَحاديثِ إِشاراتٍ إِلى الوُلاةِ بِكَيْفِيَّةِ التَّعامُلِ مَعَ الـمُحْسِنِ وَالـمُـسيءِ مِنَ النّاسِ، فَفي كِتابِ العَهْدِ مِنْ أَميرِ الـمُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلى مالِكٍ الأَشْتَرِ وَرَدَ:«لا يَكونَنَّ الـمُحْسِنُ وَالـمُـسيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَواءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَزْهيدٌ لِأَهْلِ الإِحْسانِ في الإِحْسانِ، وَتَدْريبٌ لِأَهْلِ الإِساءَةِ عَلى الإِساءَةِ، فَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ ما أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَدَباً مِنْكَ». وَكانَ عَلَيْهِ السّلامُ يَقولُ:«اسْتِصْلاحُ الأَخْيارِ بِإِكْرامِهِمْ، وَالأَشْرارِ بِتَأْديبِهِمْ»، وَقالَ أَيْضاً:«ازْجُرِ الـمُسيءَ بِثَوابِ الـمُحْسِنِ». وَكانَ يَرى أَنَّ العاقِلَ يَتَّعِظُ بِالأَدَبِ فَقالَ:«لا تَكونَنَّ مِمَّنْ لا تَنْفَعُهُ العِظَةُ إِلّا إِذا بالَغْتَ في إيلامِهِ، فَإِنَّ العاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآدابِ، وَالبَهائِمَ لا تَتَّعِظُ إِلّا بِالضَّرْبِ».
وَبَعْضُ النّاسِ إِذا واجَهَتْهُمْ مَصاعِبُ في الحَياةِ، نَجِدُهُمْ يَنْقِمونَ عَلى مَنْ حَوْلِهِمْ، وَيَفْقِدونَ صَبْرَهُمْ، فَيَأْخُذونَ بِالتَّشَكّي مِنْ سوءِ الأَحْوالِ وَالأَوْضاع، وَمِنْهُمْ مَنْ تَسوءُ أَخْلاقُهُ وَيُصْبِحُ لِسانُهُ كَالسَّيْفِ، فَلا يَجْرُؤُ أَحَدٌ على مُناقَشَتِهِ أَوِ التّواصُلِ مَعَهُ. وَهَؤُلاءِ جَميعاً عَلى عَكْسِ الـمُؤْمِنينَ الّذينَ قالَ فيهِمُ الإِمامُ عليٌّ عَلَيْهِ السّلامُ:«إِنَّ اللهَ تَعالى أَدَّبَ عِبادَهُ الـمُؤْمِنينَ أَدَباً حَسَناً فَقالَ جَلَّ مِنْ قائِلٍ:﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ البقرة: 273».
وَخَيْرُ ذِكْرى يَتْرُكُهُ الإِنْسانُ وَسْطَ أَهْلِهِ وَأَصْدِقائِهِ وَزُمَلائِهِ، في حَياتِهِ وَمَماتِهِ، هُوَ لينُ عَريكَتِهِ وَصفاءُ سَريرَتِهِ وَحُسْنُ عِشْرَتِهِ.
::::: موقع سماحة اية الله الفقية السيد حسين الصدر :::::
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين