الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سادة الخلق أجمعين أبي القاسم محمد المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
تستوقفنا في ذكرى وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عدة أمور:
(الأول) كانت وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادة على أن البقاء لله وحده قال تعالى: [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] (الزمر:30) وقال الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة عاشوراء لأخته العقيلة زينب (عليها السلام): (إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون) ولو استحق أحد أن يبقى لكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه أكمل الخلق وأفضلهم وجعل الكون بما فيه طوع إرادته وهو عند الله تعالى أكرم من نبيه سليمان بن داود الذي قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود (عليه السلام)، الذي سُخّر له مُلك الجن والإنس، مع النبوة وعظيم الزلفة. فلما استوفى طُعمته، واستكمل مدّته، رمَته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطّلة، وورثها قومٌ آخرون)([1]) وفي ذلك موعظة للخلق جميعاً.
(الثاني) هوان الدنيا على الله تبارك وتعالى حين يُخليها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما قيمتها بدونه (ص) فأصبحت الدنيا بفقده مظلمة، والآخرة بنوره مزهرة، وفي ذلك عبرة لمن تطمح عينه إلى الدنيا ويجعلها هدفاً لحياته، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كافٍ لك في الأسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قُبضت عنه أطرافها، وَوُطِّئت لغيره أكنافها، وفُطمَ عن رضاعها، وزوي عن زخارفها) (فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن فيه أسوةً لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى. وأحبُّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيه والمقتصّ لأثَرِه) (عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلمَ أن الله سبحانه أبغضَ شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولو لم يكن فينا إلا حبُّنا ما أبغضَ اللهُ ورسولُه وتعظيمُنا ما صغّرَ اللهُ ورسولُه، لكفى به شقاقاً لله، ومحادَّةً عن أمر الله)([2]).
(الثالث) انقطاع جملة من البركات كانت مرتبطة بشخصه المبارك ووجوده بين الناس (منها) الوحي المباشر الذي كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) (ومنها) ارتفاع ألوان من العذاب، قال تعالى: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] (الأنفال:33) وورد في أخبار الفريقين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أنزلَ الله عليَّ أمانين لأمتي: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)([3]) ومع ذلك فإن خيره وبركاته متواصلة حتى بعد وفاته، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ]، ومفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خميس واثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة أستغفر الله لكم)([4]).
(الرابع) انفتاح باب الظلم والعدوان على آل بيت النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل بيته: (أنتم المستضعفون بعدي) وحصل ما حصل على دار علي وفاطمة (صلوات الله عليهما وآلهما) –لذا لا يكاد ينفك الحديث عن وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديث عما تعرضت له الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) - مخالفين بذلك قول الله تبارك وتعالى: [قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] (الشورى: 23) ووصايا نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الكثيرة.
(الخامس) الانقلاب على الأعقاب ومخالفة وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمير المؤمنين (عليه السلام) بالإمامة والخلافة، قال تعالى: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ] (آل عمران:144) وهذه أهم قضية بلّغها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدّاها عن ربه بنص القرآن الكريم قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ] (المائدة:67).
وكل واحد من هذه الأمور يستحق أن نطيل الوقوف عنده والتأمل فيه، ولكن الوقت لا يسع لذلك فنقتصر على الأخير لأهميته.
إن قضية الإمامة والخلافة أعظم قضية في الإسلام فهي مفتاح كل خير لو أن الأمة اهتدت إليها وأخذت بها، ومفتاح كل شرّ –والعياذ بالله- من سفك دماءٍ وتخريب ديار وانحرافٍ عن الدين، عندما يتخلفون عنها، وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ التصريح بها والدعوة إليها منذ أيام الإسلام الأولى عندما نزلت الآية الشريفة [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] (الشعراء:214) فقد روى الفريقان أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع بني عبد المطلب وكانوا أربعين رجلاً ودعاهم إلى الإيمان ومؤازرته واختار علياً ليكون وصيه وخليفته([5]) ثم والى (صلى الله عليه وآله وسلم) الإعلان والتبليغ بها حتى دعاه الله تبارك وتعالى إلى إكمال الدين وإتمام النعمة بإلزام المؤمنين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) في غدير خم قبل وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهرين وعشرة أيام، لكن بعض الصحابة ولأسباب معلومة نكثوا البيعة، وعندما حاول (صلى الله عليه وآله وسلم) تأكيدها قبل وفاته بأربعة أيام أي يوم الخميس الذي سبق وفاته يوم الاثنين حصل لغط وخلاف بين الصحابة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: قوموا، ثم أوصى أهل بيته بالاستعداد للبلاء واتخاذ الصبر جلباباً، هذه الحادثة التي أطلق عليها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن:
(رزيّة يوم الخميس) لأنها أساس المصائب والانحراف عن خط الرسالة.
الانحراف الذي بدأ –كأي خط مائل عن الخط المستقيم- يسيراً ثم ازداد بعداً كلما تقدم الزمن فبدأت عُرى الإسلام تُنقَض، ومقدساته تنتهك ولم تبق حرمة له حتى آلت الخلافة إلى أناس يقتلون أولاد النبيين ويحرقون الكعبة ويشربون الخمر ويفعلون المنكرات جهاراً على منابر المسلمين، ونشأت أجيال من المسلمين لا تفقه من أحكام الإسلام شيئاً لأن الناس على دين ملوكهم، ولا سبيل للوصول إلى الأئمة الهداة الحقيقيين فهم معتقلون ومعذبون ومحاصرون، وكان الداخلون الجُدد في الإسلام من الأمم التي غزاها المسلمون لا يرون من الإسلام إلا ما يظهر على سلوك الأمراء، ولولا جهاد وجهود الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والثلة المباركة من أصحابهم لما بقي للدين عين ولا أثر كأبان بن تغلب الذي قال فيه الإمام الصادق (عليه السلام) لما بلغه موته: (لولا أبان لمات فقه أبي).
وكان لهذا الانقلاب على وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مستحقي الإمامة والخلافة من بعده وإقصاء القادة الحقيقيين للأمة آثار([6]) كارثية وويلات عظيمة على الأمة:
(منها) تصدي غير المؤهلين للخلافة بل الفاسدين من بني أمية وبني العباس وأضرابهم مما أدى إلى:-
1- تشوّه صورة الإسلام نفسه لأن أي دين أو نظام أو آيديولوجية تُقيَّم من خلال سلوك القائمين عليها لعدم التفكيك بين النظرية والممارسة والتطبيق، فلما يتصدى للحكم باسم الإسلام قتلةٌ ومجرمون وفاسدون فإنهم يشوّهون صورته.
2- طمع أعداء الإسلام في الكيد له واستئصال قواعده وتعاليمه حيث وجدوا لهم منفذاً بل حظوة لدى أولئك المتسلطين الجبابرة.
3- ضياع مقاييس ومعايير الاستحقاق لهذا المنصب العظيم فأصبحت هدفاً لكل الطامعين في السلطة والحكم ولو بالقهر والسيف ما دام الحكم لمن غلب.
(ومنها) ابتداع وسائل من صنع الإنسان للوصول إلى التشريعات كالقياس والشورى وأمثالها لابتعادهم عن مصادر التشريع الأصلية ولحاجتهم إلى قوانين تؤصّل لسلطتهم وتعطيهم الشرعية؛ لذا تبدلت الأحكام وصارت القوانين التي تحكم الحياة وضعية وليست إلهية.
(ومنها) عرقلة تربية البشرية وتكاملها، لأن المعلم يجب أن يكون عالماً والواعظ متّعظاً والمصلح صالحاً فكيف يربي الأمة من يتبع هواه ويطلق لنفسه الأمارة بالسوء العنان وقد جعل الشيطان ولياً له من دون الله العظيم فافتقدت الأمة الأسوة الحسنة والمربي الصالح الحنون إلا القليل ممن اهتدى إلى الحق ورزقه الله اتباعه، وعلى العكس من ذلك فقد شجعت تلك السلطات الفساد والانحراف وكانت تمارسه علناً وتوفّر أسبابه.
(ومنها) تمزّق الأمة وتشتتها إلى فرق وأحزاب وطوائف متناحرة يستحل بعضهم دماء البعض الآخر [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] (المؤمنون: 53) ولم يلتفتوا إلى وصية الله تبارك وتعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] (آل عمران:103) وقوله تعالى: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال:46) وقد فسّرت الأحاديث الشريفة حبل الله بالقرآن الكريم وعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته.
(ومنها) انحسار دور الدين عن التأثير في حياة الأمة، فبعد أن كانت رسالته تنظيم شؤون الحياة كلها اقتصر أثره على عدد من المتدينين من خلال طقوس وعبادات يؤدونها، وقد عمل الطغاة على ذلك لأنهم يعلمون أن إعطاء دور شامل للدين يعني الحاجة إلى الرجوع إلى القيّمين الحقيقيين عليه مما يعني خسارة الحكام الجائرين لسلطتهم ومواقعهم فقرروا عزل الدين ليعزلوا أئمته والأدلاّء عليه.
(ومنها) تأخر ركب الحضارة الإنسانية، لأن أوصياء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لديهم كل ما تحتاجه البشرية من علوم وقد احتوت المصادر على نظريات علمية في الفيزياء والفلك والرياضيات والفسلجة والكيمياء والطب وغيرها لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) (راجع كتاب قضاء أمير المؤمنين (ع) وتوحيد المفضّل ورسائل جابر بن حيّان في الكيمياء) فلو أُتيحت الفرصة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) لإظهار علومهم وثنيت لهم الوسادة، لما احتجنا إلى أربعة عشر قرناً لنصنع الطائرة والكومبيوتر والإنسان الآلي والتكنولوجيا النووية وغيرها مما يضمن للبشرية حياةً أفضل وأهنأ وأسعد.
وعلى أي حال فقد كانت خسارتنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عظيمة بعظم النتائج التي حصلت بوفاته (ص) فما أصيبت البشرية بمثل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى مثله فليبك الباكون وليندب النادبون:
أنسَتْ رزيّتُكم رزايانا التي سلفتْ وهوّنت الرزايا الآتية
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.