اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حقيقة الرؤى والأحلام -1-
المنامات الحقيقيّة
الرؤى الصادقة هي المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجيّة، وخاصّة المستقبليّة منها: كَمَن يرى أنّ حادثة كذا وقعت، ثمّ تقع بعد حينٍ كما رأى، ولا معنى للإرتباط الوجودي بين موجود ومعدوم، أو أمر غائب عن النفس لم يتّصل بها من طريق شيء من الحواسّ، كَمَن رأى أنّ في مكان كذا دفيناً فيه من الذهب المسكوك كذا، ومن الفضّة كذا، في وعاء صِفَته كذا وكذا، ثمّ مضى إليه وحفر كما دُلَّ عليه فوَجَده كما رأى، ولا معنى للإرتباط الإدراكي بين النفس وبين ما هو غائب عنها، أي ما لم تَنَلْه بشيءٍ من الحواسّ.
ولذا قيل: إنّ الإرتباط إنّما استقرّ بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة، الذي هو السبب فوق عالم الطبيعة، فترتبط النفس بسبب الحادثة، ومن طريق سببها بنفسها.
توضيح ذلك: أنّ العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه، والأشياء الموجودة فيه صُوَر ماديّة تجري على نظام الحركة، والسكون، والتغيُر والتبدُّل.
وثانيها عالم المِثال وهو فوق عالم الطبيعة وُجوداً، وفيه صُوَر الأشياء بلا مادّة، منها تنزل هذه الحوادث الطبيعيّة وإليها تعود، وله مقام العليّة ونسبة السببيّة لحوادث عالم الطبيعة.
وثالثها عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجوداً، وفيه حقائق الأشياء وكلّيّاتها من غير مادّة طبيعيّة ولا صورة، وله نسبة السببيّة لِمَا في عالم المثال.
والنفس الإنسانيّة لتجرُّدها، لها مُسانَخة مع العالَمَين؛ عالم المِثال وعالمِ العقل، فإذا نام الإنسان وتَعطّلت الحواس انقطَعَت النفس طبعاً عن الأمور الطبيعيّة الخارجيّة، ورَجعَت إلى عالمها المُسانِخ لها، وشاهَدَت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الإستعداد والإمكان
فإن كانت النفس كاملة مُتمكِّنة من إدراك الُمجرَّدات العقليّة أدركتْها، واستَحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكُليّة والنُّوريّة، وإلا حكتها حكاية خياليّة بما تأنَسُ بها من الصُّوَر والأشكال الجزئيّة الكونيّة، كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكليّة بِتصوُّر جسم سريع الحركة، ونحكي مفهوم العَظَمة بالجبل، ومفهوم الرِّفعة والعلوّ بالسماء وما فيها من الأجرام السماويّة، ونحكي الكائد المكّار بالثعلب، والحسود بالذئب، والشُّجاع بالأسد إلى غير ذلك.
وإن لم تكن مُتمكِّنة من إدراك المجرّدات على ما هي عليها، والإرتقاء إلى عالَمها، توقّفت في عالم المِثال مرتقيةً من عالم الطبيعة، فربّما
شاهدت الحوادث بمشاهدة عِلَلها وأسبابها من غير أن تتصرّف فيها بشيء من التغيير، ويَتّفق ذلك غالباً في النفوس السليمة، المتخلِّقة بالصدق والصفاء، وهذه هي المنامات الصريحة.
وربّما حكَت ما شاهدتْه منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها، كتمثيل الزواج بالإكتساء والتلبّس، والفَخار بالتاج، والعلم بالنور، والجهل بالظُّلمة، وخُمود الذِّكر بالموت، وربّما انتقلنا من الضدِّ إلى الضدِّ، كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغِنى، وانتقالنا من تصوّر النار إلى تصوّر الجَمَد، ومن تصوّر الحياة إلى تصوّر الموت وهكذا، ومن أمثلة هذا النوع من المنامات ما نُقل أنّ رجلاً رأى في المنام أنّ بيده خاتماً يَختم به أفواه الناس وفروجهم، فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال:
"إنّك ستصير مؤذّناً في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك "
أقسام المنامات الحقيقيّة
وقد تبين ممّا قدّمناه: أنّ المنامات الحقّة تنقسم إنقساماً أوّليّاً إلى منامات صريحة لم تتصرّف فيها نفس النائم، فتنطبق على ما لها من التأويل
من غير مَؤونة. ومنامات غير صريحة تصرّفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال، والإنتقال من معنى إلى ما يُناسبه أو يُضادّه، وهذه
هي التي تحتاج إلى التعبير بردِّها إلى الأصل الذي هو المشهود الأوّلي للنفس، كردّ التّاج إلى الفَخار، وردّ الموت إلى الحياة، والحياة إلى
الفَرَج بعد الشدّة، وردّ الظُلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.
ثمّ إنّ هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما تتصرّف فيه النفس بالحكاية، فتنتقل من الشيء إلى ما يُناسبه أو يُضادّه، ووقفتْ في المرّة والمرّتين بعد الإنتقال مثلاً، بحيث لا يعسر ردّه إلى أصله كما مرّ من الأمثلة
وثانيهما ما تتصرّف فيه النفس من غير أن تَقف على حدّ، كأن تنتقل مثلاً من الشيء إلى ضدّه، ومن الضدّ إلى مثله، ومن مثل الضدّ إلى ضدّ المثل وهكذا، بحيث يتعذّر أو يتعسر للمُعبّر أن يردّه إلى الأصل المشهود، وهذه المنامات هي المسمّاة بأضغاث الأحلام، ولا تعبير لها لتعسره تعذُّره.
وقد بان بذلك أنّ هذه المنامات ثلاثة أقسام كلّية، وهي: المنامات الصريحة ولا تعبير لها لعدم الحاجة إليه، وأضغاث الأحلام ولا تعبير فيها لتعذُّّره أو تعسره، والمنامات التي تصرّفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهي التي تقبل التعبير.
وفي القرآن ما يؤيِّد ما مرّ من الكلام عن هذا النوع من الرُّؤى وأقسامه، قال تعالى: { وهو الذي يتوفاكم بالليل }
وقال: { اللهُ يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى }
وظاهر الآيتين أنّ النفوس متوفّاة ومأخوذة من الأبدان، مقطوعة التعلّق بالحواسّ الظاهرة، راجعة إلى ربها نوعاً من الرجوع يُضاهي الموت. وقد أُشير في كلامه تعالى إلى كلّ واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم وأم موسى وبعض رؤى النبي (ص) ومن القسم الثاني مافي قوله تعالى: { قالوا أضغاث أحلام }
ومن القسم الثالث رؤيا يوسف ومنام صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر الذكورة في سورة يوسف
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين