اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وألعن أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الله ربي جل علاه : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفَّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَقَالَ صَوَاباً(38)ذَلِكَ الْيَومُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّآ أَنْذَرْنَـاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَـلَيْتَنِى كُنْتُ تُرَاباً(40) } من سورة النبأ
النظرة الصائبة لمسألة «الجبر والإختيار»!!
تعتبر مسألة (الجبر والإختيار) من أقدم المسائل المبحوثة بين أوساط العلماء، يرى فبعضهم حرية اختيار الإنسان، ومنهم من يرى بأنّ الإنسان مجبور في أعماله،
وكلّ منهما يمتلك جملة من الأدلة التي أوصلته لما يرى.
ومن اللطيف أنّ كلا الفريقين، يقبلون عملياً بأنّ الإنسان مختار في أفعاله.
وبعبارة اُخرى: إنّ البحث والنقاش الدائر بين العلماء لا يتعدى دائرة البحث العلمي، أمّا على الصعيد العملي فالكل متفقون على حرية الإختيار للإنسان.
وهذا يظهر لنا بوضوح بأنّه أصل حرية الإرادة والإختيار من الاُصول التي انطوت عليها الفطرة الإنسانية، ولولا الوساوس المختلفة لاتفق الجميع على حقيقة حرية الإرادة في الإنسان.
إنّ الوجدان النوعي والفطرة الإنسانية عموماً من أوضح أدلة الإختيار، وقد تجلت بصور متنوعة في حياة لإنسان.
وعليه.. فإذا كان الإنسان لا يقبل بالإختيار ويعتبر نفسه مجبوراً في أعماله فلماذا إذن:
1 ـ يندم على بعض الأعمال التي يقوم بها أو لم ينجزها، ويضع تجربته كعبرة ليعتبر به مستقبلاً، فإذا لم يكون مختاراً، فلماذا الندم؟!
2 ـ يلام ويُوبّخ كلّ مَن يسيء، فلماذا يلام إن كان مجبوراً في فعله؟!
3 ـ يُمدح ويحترم صاحب العمل الصالح.
4 ـ يسعى الناس جاهدين لتربية وتعليم أبنائهم ليضمنوا لهم مستقبلاً زاهراً، وإذا كانت الأعمال جبرية، فلماذا هذا التعليم.
5 ـ يسعى العلماء قاطبة لرفع المستوى الأخلاقي في المجتمع؟
6 ـ يتوب الإنسان على ما فعل من ذنوب، أو هل للجبر مِن توبة؟!
7 ـ يتحسر الإنسان على تقصيره فيما يطلب منه؟
8 ـ يحاكم المجرمون والمنحرفمون في كل دول العالم، ويحقق معهم حسب قوانينهم؟
9 ـ تضع جميع الاُمم (المؤمنة أم الكافرة) العقوبات للمجرمين؟
10 ـ مَن يقول بالجبر يصرخ متغنياً في وجه المحاكم لمعاقبة مَن اعتدى عليه؟
والخلاصة:
إن لم يكن للإنسان اختيار، فما معنى الندم؟ ولماذا يلام ويوبخ؟
أمِن العقل أن يلام الإنسان على فعل فعله قهراً؟!
ثمّ لماذا يمدح أهل الخير والصلاح؟ فإن كان ما فعلوه خارج عن إرادتهم فلا معنى لتشجيعهم.
والقبول بوجود تأثير للتربية والتعليم على سلوك الإنسان يفقد (الجبر) معناه تماماً، وكذا الحال بالنسبة للمسائل الأخلاقية، فلا مفهوم لها بدون الإعتراف أولاً بحرية الإنسان...
ثمّ إن كنّا قد جعلنا على أعمالنا جبراً، فهل يبق للتوبة من معنى؟! ولِمَ الحسرة والحال هذه؟! بل إنّ محاكمة الظالم ظلم واضح، والأكثر ظلماً معاقبته؟!!
وكلّ ما ذكر يدلل على أنّ حرية الإرادة وعدم الجبر أصل تحكم به الفطرة الإنسانية، وهو ما ينسجم تماماً والوجدان البشري العام، والكل يعمل على ضوء هذا الأصل، ولا فرق في ذلك بين عوام الناس أو خواص العلماء والفلاسفة، ولا يستثنى من ذلك حتى الجبريين أنفسهم، وكما قيل في هذا الجانب: (الجبريون اختياريون من حيث لا يعلمون).
والقرآن الكريم حافل بما يؤكّد هذه الحقيقة، ونظراً لكثرة الآيات التي تؤكّد على حرية إرادة الإنسان ـ مضافاً الى الآية المبحوثة: (فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآباً) ـ
سنكتفي بذكر ثلاث آيات من القرآن الحكيم.
ففي الآية (3) من سورة الدهر: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً).
وفي الآية (29) من سورة الكهف، يقول تعالى:(فمن شاء فيؤمن ومَن شاء فليكفر).
وجاء في الآية (29) من سورة الدهر أيضاً: (إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّّخذ إلى ربّه سبيلاً).
الحديث حول (الجبر والتفويض) طويل جدّاً، وقد كتبت في ذلك كتب ومقالات عديدة، وما ذكرناه لا يتعدى كونه إلقاء نظرة سريعة ومختصرة على ضوء (القرآن) و(الوجدان)، ونختم الحديث بذكر ملاحظة مهمّة وهي: إنّ الدوافع النفسية والإجتماعية قد اختلطت مع الإستدلال الفلسفي عند الكثيرين ممن يقولون بالجبر.
فكثير ممن اعتقدوا بالجبر، أو (القضاء والقدر) بمعناه الجبري إنّما توسلوا به للفرار من المسؤولية: أو أنّهم جعلوها غطاءً لفشلهم الناتج عن تقصيرهم وتساهلهم في أداء وظائفهم، أو جعلوها مبرراً لإتباع أهوائهم ونزواتهم الشيطانية.
استغل المستعمر ـ في بعض الأحيان ـ هذه المقولة، وجدّ على نشر وتأكيد هذه العقيدة الباطلة لتحكيم سيطرته على الرقاب، بعد أن يوهم الناس بأنّهم مجبورون من قبل اللّه على أن يعيشوا تحت سطوة الحاكم الموجود قضاءً وقدراً ليأمن المستعمِر من المقاومة، يكسب رضاهم وتسليمهم له!
فالإعتقاد بهذا الرأي... يعني تبرير كلّ ما يقوم به الطغاة والجناة، وتبرير جميع ذنوب المذنبين، وبالنتيجة: لا يبقى فرق بعد بين الصالح والطالح، والمطيع والعاصي!!...
اللّهمّ! قِنا من السقوط في زلل العقائد المنحرفة..
اللّهمّ! أنت المأمول والمرتجى يوم تكون جهنّم للطاغين مرصاداً، والجنّة للمتقين مفازاً...
اللّهمّ! يا واسع المغفرة، لا تخيبنا يوم نرى أعمالنا مجسمة أمامنا..
آمين ربّ العالمين
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء التاسع عشر
نسألكم الدعاء