اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد لمسنا في كثيرٍ من مقالات الباحثين والمتكلّمين اضطراب الرؤية في مفاهيمهم الإسلاميّة والقرآنية، ممّا يؤدّي إلى الخلل في إصدار أحكامهم حول الإسلام والقرآن، وإساءة موقفهم من الدّين، بحجة عدم صلوح الإسلام للعصر؛ فالأحرى بهؤلاء الباحثين دراسة مفاهيم القرآن والإسلام بعمق، كما يدرسون العلوم الأخرى بجدّيّة ورصانة. فليس القرآن كتاباً عاديّاً حتّى يتناوله الإنسان بشكلٍ مسطّحٍ، ويتعامل معه بعقليّة الصّحف، وإن كان ميسّراً لكلّ الناس، منساباً كعذوبة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (17القمر54).
إنَّ القرآن كالطبيعة. الطبيعة جميلة وبسيطة وجذّابة، لكنّها عميقةٌ في أغوارها، متشابكة في نسيجها، دقيقة في قوانينها، مترامية في أبعادها.. وكأنَّ القرآن نسخة فكريّة عن الطبيعة. الطبيعة كتاب الله المنظور، والقرآن كتاب الله المسطور.. الطبيعة تؤكِّد معجزة القرآن الإلهيّة، والقرآن يؤكّد ألوهة الله المتجليّة في الطبيعة، وكلٌّ منهما يدلّ على أنَّ صانعهما واحد!
إنَّ التدقيق في كنه الآيات القرآنيّة، والتفسير الموضوعيّ لكتاب الله، يقدِّم لنا رؤيةً كليّةً أكثر عصريّة لهذا السِّفْر العظيم من خلال مفرداته الحيّة، بحيث يملك المطّلع عليه رؤية إسلامية ناضجة، ونسيجاً أوّليّاً لحقيقة هذا الوحي الإلهي والنبأ العظيم.
إنّ دراسة المفاهيم القرآنية، وتحديد أبعادها، والتدقيق في حدودها وآفاقها وأغوارها، ينقلنا من الفهم التعميمي المهمَّش للقرآن الكريم إلى الفهم العلمي الدقيق، الذي يمكن على أساسه بناء قواعد فكرية، وهيكلية بنيانيّة متماسكة في نظرتنا إلى الوجود والحياة والإنسان والمجتمع؛ ويقلل من استعار النزاع حول كثير من آيات القرآن وقيم الإسلام.
برصد مفاهيم القرآن ومقارنتها تتبلور لدينا الرؤية الفقهية لكثير من الأحكام الشرعيّة أيضاً؛ تلك التي ابتعد فيها فقهاء عن القرآن بمسافة، أو اعتمدوا على نصٍّ قرآنيّ مجتزأ، دون مقارنته بالنّصوص القرآنيّة الأخرى، أو دون التفاتٍ أحياناً إلى النّص القرآنيّ كليّةً، بل توجّهوا مباشرةً إلى ما جاء في المقولات، أو ما قاله الأصحاب من اجتهادات وآراء؛ مع أنّ الرجوع إلى كلّ الآيات في المفهوم الواحد، وكلّ الأحاديث والأخبار الصحيحة معاً، وإعادة النظر في مواضيع الأحكام، يُضيء لنا طريق الحكم الشرعيّ وموضوعه، ورؤية المفهوم بشكلٍ متميّز؛ دون أن نهمل ـ بالطبع ـ فحص تلك الاجتهادات والمقولات، والاستفادة منها وتثمين دورها في الإضاءات التاريخية التي حققتها مشكورةً لعصرها وزمانها، لكننا لا نغلِّب الفهم المحدود بمرحلةٍ تاريخيّةٍ معيَّنةٍ، ما دمنا نستطيع أن نتجاوزه، على النص القرآنيّ، إذْ كيف يصبح الفهم مقيِّداً للنص القرآنيّ وحاكماً عليه! فيكون الفهم المحدود هو المرجع لا القرآن!!
يُمكن العودة للنّص مباشرةً مع الاستفادة والاستئناس من الاجتهادات السّابقة حول نفس النص، دون أن تصفِّدنا أو تلوي أعناقنا؛ لأنَّ الاجتهاد يعني المزيد من التحليل العقليّ والاهتمام بالمستجدّات والمتغيِّرات، فإذا تسمّر عند نظر السّابقين ولم يتخطَّ ذلك سقط مبرّر وجوده...
لماذا يحقّ للسّابقين النّظر والتبحّر والتّجاوز في عصورهم ولا يحقّ لنا ذلك؟ أليس هذا هو عين الجمود والتحجّر؟!
إنَّ تقليد اتّجاهات فقهيّة عاشت لعصرها، وإسقاط محدوديّتها وسلبيّاتها وأخطائها وقصورها وعجزها على عصرنا، دون نقدٍ وبلورةٍ، لهو ظلم للإسلام والمسلمين يحمّلنا تركة ثقيلة، ويُعيق حركة الإسلام العالميّة التطوريّة الخلّاقة، دون أن ننسى الإشادة بإيجابيّاتها والحاجة إلى الاتّجاهات الخلّاقة منها، والفهم المتقدّم للنّصوص الذي أثرى مسيرة الاجتهاد الفقهيّ.
إنَّ التقليد للمدارس المغلقة أو النّظريّات القاصرة عن حلِّ مشاكل العصر يُنافي معنى الإسلام الذي أنزله اللَّه تعالى ليستوعب التطوّر، بل ليقوده ويرشّده، ويصبح النّموذج الحيّ له...
فلا بدّ للمفسّر من أن يستحضر القرآن كلّه في ما يتّصل بالموضوع، وأحدث تطوّرات الفكر واختبارات العصر وهو يتناول تفسير أيّ آية أو أيّ مفهومٍ قرآنيٍّ، وهذا لا يتيسَّر إلّا في التفسير الموضوعيّ المتّصل بالبنيان الكلّيّ، واعتماد العلائق العميقة للآيات. كما يحتاج إلى عقلٍ كبيرٍ، ورجوعٍ إلى أهل الرّسوخ والتّجذّر في العلم حتّى يؤتي أكله، حيث يقول تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ) (آل عمران 3/7).
هل يعني ذلك شبه استحالةٍ لفهم القرآن ومفاهيمه لعامّة الناس وللعلماء، خصوصاً تلك المتشابهة؟ فلمن نزل القرآن إذن؟
نقول: كلّا!! كلٌّ يأخذ منه بحسب قدرته واستطاعته، ويبقى فيه المزيد للأجيال الطالعة! وأهل العلم والفكر المتمرّسين!.. يعني ذلك أنّ معرفتنا تتنامى في فهم القرآن باستمرار كمّاً وكيفاً، وأنّ القرآن لا ينفد، وأنّ معرفتنا فيه يجب أن تزداد دائماً، وأن تأخذ طابعاً علميّاً موضوعيّاً للاستفادة القصوى، وذلك من خلال التّفسير الموضوعيّ المركَّز فضلاً عن التفسير الترتيبي.. وهذا العمل محاولة متواضعة في هذا الاتّجاه تيسيراً لتناول مفاهيم القرآن، والكشف عن أسراره بعدما كان البحث عنها في التفاسير العديدة يستغرق وقتاً طويلاً، ويعقّد النتيجة على الباحث.
مفاهيم القرآن والفلسفة
يوجد في القرآن حشدٌ كبيرٌ من المفاهيم المباشرة وغير المباشرة، يأخذ بعضها برقبة بعضٍ. ويوجد من المفاهيم التحليلية التي تفضي إلى مفاهيم أخرى في الداخل القرآني أضعافاً مضاعفة. وقد اخترنا في هذا القاموس من كلّ هذه الكنوز ما يتصل بمتطلّبات التفسير، والثقافة المعاصرة، وحركة الحياة الحاليّة، ممّا يتّسع له جهد فردٍ، تاركين للعلماء الأفذاذ الراسخين الآتين والاختصاصيين في شتّى العلوم، وللزّمن، مهمّة تسجيل الإضافات والكشف عن المزيد.
...وبالمقارنة بين أعظم الفلسفات البشريّة وأدقّها وبين القرآن، نجد أنّها لا تمتلك أكثر من بضع مئاتٍ من المفاهيم، لا تُقاس بآلاف المفاهيم القرآنيّة والإسلاميّة التي رُصِدت لفهم الوجود والحياة، واستيعاب التطوّر والتقدّم البشريّ. وكلّما تنوّعت مفاهيم أطروحة واستوعبت المشكلات المستجدة أكثر، وعالجتها بدقّةٍ، كما في القرآن والإسلام، كانت أقوى على الصمود والبقاء، وفرضِ نفسها على البشر كحتميّةٍ تاريخيّةٍ ضروريّةٍ يصبو إليها الإنسان ويتشوّق، ويبحث عن الخلاص فيها.. وهذا ما يفسِّر استمرارية الإسلام، ودخوله في المنافسة الحضارية المعاصرة، والسجال العالمي الحي كفكرٍ عملي ينظِّم الحياة، وليس كأطروحة روحية فقط، أو كنظامٍ مادّيٍّ منقطع عن الله!!...
إنَّ القرآن للزمن ككلّ، دون حصره في الماضي فقط! تؤكّد لنا ذلك مرونة مفاهيمه وسيَلانها كالنّهر واتّساعها وعمقها دون أن تخرج عن الضوابط والتحديد والدقة! وقابليّتها للاستنباط وحلّ مشاكل العصر! واكتشاف الكثير والجديد فيها، بالتّجربة الحيّة، والواقع الملموس!.. ومفردات القرآن ومفاهيمه بين أيدينا تؤكّد ذلك عمليّاً.. وهذا العمل القرآنيّ شاهد عليه..
آفاق المفهوم القرآنيّ وعناصره
لا يستطيع المتكلّم البشريّ مهما علت بلاغته وثقافته، واشتدَّ حرصه، أن يختار دائماً مفرداته اللغويّة بشكلٍ قادرٍ على التكيُّف مع تغيّرات الزّمن، وتحوّلات المستقبل، بكلّ مفاجآته وتطوّراته، واختلاف علاقاته، إلّا بتوجيهٍ إلهيٍّ كما في كلام المعصوم؛ لأنَّ ذلك يحتاج إلى علمٍ كلِّيٍّ بالمستور، وكشفٍ من الغيب.
أمَّا كلام اللَّه فهو نصّ صادرٌ عن المطلق، أخذ في حسابه كلّ الحقائق الظاهرة والباطنة، ومطالب البشر والإنسانيّة في كلّ زمانٍ ومكانٍ.
من هنا تتحوّل المفردة القرآنيّة في خصوصيّاتها وسياقها، وأماكن وأساليب استعمالها في القرآن الكريم إلى عالَمٍ مكتنِز، ومفهومٍ ممتلئ بالدلالات والإيحاءات، يحتاج إلى الدراسة والتعمّق للاستفادة المركّزة، وتطوير فهمنا للوجود والإنسان والخير والشّرّ.. لذا، فإنَّ كثيراً من المفردات القرآنية هي مفاهيم مشبّعة بالأبعاد الفكريّة، فضلاً عن المفردات التي أخذت معنى المصطلح كالصّوم والصّلاة والحجّ والخمس والزّكاة..
لقد أحدث القرآن ثورة في اللغة والمفاهيم والمصطلحات، وأفرغ العربية من معانيها السكونية المبهمة، وملأها بعناصر الرؤية العلمية.
لم يكن قبل الإسلام لكلمات مثل (المؤمن) و(الكافر) و(المسلم) و(المنافق) و(الفاسق) و(الملكية) و(العمل) و(الوطن) و(الوضوء) و(الغسل) و(الطهارة) و(الجنابة) و(الحيض) و(الحبط) و(الجزاء) و(الولي) و(الولاية) و(الإمامة) و(الشورى) و(العدل) و(الأخوَّة) و(المساواة) و(التوكّل) و(الجهاد) و(الشهادة) وحشود المفردات، معانٍ علمية فكرية دقيقة ذات عناصر وضوابط محدّدة.
لقد ملأ القرآن والإسلام اللغة العربية بالعلم والمنطق، حتى كاد الكثير من كلمات القرآن أن يتحوّل إلى مفاهيم؛ وصار الكتَّاب والعلماء يتعاملون مع المفردة العربية بطريقة أكاديمية فلسفية متخصصة، بل إن القرآن استعمل أسماء الأعلام والأشياء والأحداث في سياقٍ ونَسَقٍ خاصٍّ، حتّى أصبح موقعها وزاوية التّعامل معها يُشكِّل مفهوماً من المفاهيم القرآنيّة. فكلمة (الإبل) في القرآن الكريم لم تأت لمعنى زائدٍ عمَّا في اللغة، لكنّها استعملت بطريقةٍ منهجيّةٍ في تفسير الظواهر، وعلّمنا القرآن ـ وهو يسوق تلك المفردة ـ كيف نربط ونفسِّر عجائب الخلق والمخلوقات بالخالق المبدع وليس بمجرّد الطبيعة!...
موضوع الآية وانتزاع المفهوم
تدور كلّ آية أو مقطع قرآنيّ على محورٍ أساس تتحرّك حوله، هو الذي يُشكِّل لبّها وجوهرها.. كما تقوم كلّ سورةٍ على نواةٍ معنويّةٍ في الداخل، تشدُّ كلّ نسيج السّورة إليها، وتُشكِّل مواضيع آياتها أجزاءً تدور حول تلك النواة، في توليفةٍ كاملةٍ، محبوكة مترابطة ترابطاً ظاهراً أو خفيّاً تشدُّ المعنى الكلّيّ، وتؤكِّده في بنيانٍ مرصوصٍ، يتّحد لبابه، وإن تنوّعت أنشطته، أو لم نكتشف أحياناً علاقاته الخفية بسهولة...
والمفهوم قد يكون مذكوراً في الآية بلفظه، وقد يكون متَصيَّداً من معناها. وتحتشد دلالات الآية وإيحاءاتها لتنتج المفهوم الذي يتّصل بموضوعها، حيث تبني عليه بنيانَها وتستحكم نسيجَها؛ وبه تتصل متحرّكاتها وثوابتها.. مثاله في المفهوم المتصيَّد من المعنى العام قوله تعالى في الرسول(ص): (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ (عبئهم) وَالْأَغْلَالَ (القيود) الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:7/157). ونستخلص من هذه الآية مفهوم الحريّة ونضعه عنواناً لها.
ويُمكن انتزاع عدّة عناوين من الآية الواحدة ووضعها تحت مفاهيم مختلفة، لاختلاف زاوية التعامل مع الآية على أساس عناصرها الأساسيّة أو الجانبيّة...
العلّامة الشيخ عبد اللطيف برّيّ
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين