اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التقى الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أصحابه في المدينة المنوّرة إثر عودتهم من رحلة الحج، وفي المدينة جلسوا جميعاً في ناحية تحت أشجار النخيل، وهناك قدّم لهم الإمام الكاظم الطعام. ولما انتهوا من الغداء، ورفعت السفرة، أراد أحد أصحابه أن يلتقط فتات الخبز وبقايا الطعام حفاظاً على النعمة، لكن الإمام الكاظم عليه السلام طلب منهم إبقاء بقية الطعام في البرية كرمى العصافير والحيوانات الأخرى الباحثة عن قوتها، فقال عليه السلام: «إنما ذلك في المنازل تحت السقوف، فأما في مثل هذا الموضع فهو لعافية الطير والبهائم».
أخبرهم الإمام عليه السلام أن الطعام تحت السقوف -أي داخل المنازل- هو الطعام الذي يجب المحافظة عليه، فلا يُرمى في الزبالة ولا يُداس تحت الأقدام، أما في البرية فلا بأس إن بقي القليل منه، لأن الطيور تستلتقطه، كما ستلتهمه البهائم الجائعة، وفي هذا إشارة إلى أهمية التوازن البيئي، حيث يؤدي كل عنصر في الطبيعة دوره في التوازن الضروري للعناصر البيئية، والتقارير العلمية حول ذلك كثيرة، ويكفي أن نطل على الدراسات والأبحاث العلمية والبيئية، فنقف على دور الحيوانات البرية في الحفاظ على التوازن المطلوب في الطبيعة، إلى جانب العناصر البيئية الأخرى من ماء وشجر وغيرها.
ومن ناحية أخرى، فإنّ تعاطف الإنسان مع المخلوقات الضعيفة تنم عن رقة قلب وأحاسيس مرهفة تنضح بها جنباته، فلا يدوسها بأقدامه كأنها حجارة، ولا يهملها كأنها غير موجودة أو كأنها شيء وجب التلخص منه... إن الكيفية التي يتعامل بها الإنسان مع ما حوله تشي بدواخله، وبنظرته إلى الوجود الحياة... فهذا الذي يلمح نملة في البرية ويفسح لها الطريق فلا يدوسها بقدمه ليس كمن لا يأبه لوجودها، أو هذا الذي يصطاد الطيور عبثاً أوفي غير أوقات الصيد، ليس كمن يبتغي الصيد للفائدة، ويحافظ على إناث الطيور وصغارها.
وإذا كانت القائمة السوداء طويلة في كتاب البيئة، فإننا نصادف أشخاصاً يحافظون على عناصرها بدافع الحبّ، والشفقة على المخلوقات الضعيفة، ولا سيما في الفصول التي يقل فيها الماء أو الطعام... وتعداد هؤلاء الأشخاص يطول، لكني أتوقف عند سيّدة محبّة، قضت عمرها في الاهتمام بطيور البرية في فصل الصيف.
إنها امرأة من بلدة ياطر في جنوب لبنان، اسمها خاتون الورد. لا يعرف أهل قريتها الشيء الكثير عنها، سوى حادثة جليلة جعلت الأهالي يتداولون أمرها في أماسيهم وفي سهراتهم.
يتذكر من عاصر خاتون الورد في خمسينيات من القرن الماضي، أن العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين (قده) كان يتردد كثيراً إلى القرية، وبنى فيها المسجد الجامع الذي ما زال يتوسط القرية بالرغم من تشييد غير مسجد في ضواحيها.
مرة استيقظ السيد واستوى جالساً، وتعجب من رؤيا رآها، فحوقل وحمد الله وسبّحه، وقرر التوجه إلى القرية والتعرف إلى خاتون الورد، لماذا؟ رأى في المنام أن امرأة اسمها خاتون الورد في قرية ياطر لها قصر في الجنّة أكبر من قصره! تعجّب السيد شرف الدين من منامه وقرر معرفة ما تفعله هذه المرأة في حياتها، وما هو برنامجها العبادي كي يكون لها هذا المقام في الآخرة..
قصد أحد أصحابه في القرية كي يدله على خاتون الورد، ويقف على أحوالها.. أخبره صاحبه أن هذه المرأة من فقيدات المعيل في القرية، إذ مات عنها زوجها وترك لها ابنة صغيرة تهتم بها، وكانت تعاني من شدة وضائقة مالية، وعلى رغم أوضاع الناس الاقتصادية الصعبة فإن الكثير منهم كانوا يتصدقون عليها كل بقدر طاقته وقدرته.
كانت خاتون الورد، في لهيب الصيف، تلتقط حبات القمح وبقية الحبوب من البيدر بعدما يدرس الفلاحون الحنطة والشعير والعدس، فتجمع الحبات المتفرقة من هنا وهناك، وتذهب بها إلى البرية وتنثرها، وكانت تبحث الأجران الطبيعية في الأحجار والصخور فتملأها ماء، وعندما سئلت عن ذلك قالت: وأملأ الأجران للعصافير العطشى، لأنها تحتار من تأتي بالماء بعدما تجفف أشعة الشمس الحارقة الماء في تلك الجران، أما الحبوب فإني أنثرها لها أيضاً لأنها إن بقيت في البيدر فإنها ستداس بالأقدام فلا يُستفاد منها، فالعصافير الجائعة أولى من إضاعتها... كما كانت تنثر لها فتات الخبز وفضل الطعام. وعندما قيل لها: ألا تخشين أن تشرب من تلك الأجران الأفاعي؟ أجابت: وما الغرابة في ذلك؟ ألا تملك الأفاعي روحاً؟
أطرق السيد ملياً وهو يفكر بأحوال هذه المرأة الطاهرة، ثم اجتمع إليها وسألها الدعاء.
لم تبعد المسافة بين خاتون الورد والإمام الكاظم عليه السلام، إذا التقيا عند منعطف التفكير بالطيور والبهائم، وهو منعطف أو موقف أكدّ عليه رسول الله صلى الله وآله وأهل بيته الكرام.. فكأن خاتون الورد خبرت الكاظم عليه السلام وخبرت أهل البيت عليهم السلام فتتلمذت على أيديهم.. نسيت فقرها ونسيت معاناتها أمام ضعف تلك الحيوانات البرية وتحديداً في فصل الصيف.. وقد هدتها فطرتها السليمة إلى الاهتمام بها، فكان هذا السلوك العفوي تطبيقاً عملياً لما أوصى به النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم في الرفق بالحيوان.
موقع سماحة اية الله الفقيه السيد حسين الصدر
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين