يتمسّك مخالفوا الشيعة بالآية (83) من سورة النساء وهي قوله تعالى: (( وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم... )) بأنّ المراد: خصوص حالة الخوف - كما في صدر الآية - وذلك يكشف أنّ المراد من (( أُولي الأَمر )) هم: أُمراء السرايا والغزوات الذين كان الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينصّبهم ويعيّنهم، وليس المراد بهم الأئمّة، وهذا من الآية واضح..
وتُفسّر هذه الآية، أي قوله تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَٰلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً )) (النساء:59) بالآية السابقة, وإذا أردنا أن نستعين في تفسير هذه الآية بالروايات على أنّها نصّ في الخلافة، فذلك خلاف (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)؛ ففي هذه الآية عيّن موارد لزوم الرجوع إلى الله وإلى الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
الجواب:
للإجابة عمّا تمسّك به المخالفون في هذه الآية نقول:
أولاً: إنّ الأُمّة قد اختلفت في تعيين وليّ الأمر، وهذا ممّا لا شكّ فيه, ولكنّهم مهما اختلفوا فقد إتّفقوا وأجمعوا، من حيث يريدون أو لا يريدون، على ما يوجب كون الآية تنطبق على الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) دون من سبقه أو من لحقه ممّن تولّى أمر الخلافة، وذلك أنّ الأقوال في تفسير أُولي الأمر ستّة:
1- أُمراء السرايا والغزوات(1)، وهو ما أُشير إليه في السؤال.
2- العلماء، كما عن بعض المفسّرين(2).
3- الأُمراء والولاة(3).
4- أهل الرأي من الصحابة(4).
5- هم: القوّام على الناس والآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر(5).
6- هم: عليّ وأبناءه الأئمّة المعصومون(عليهم السلام)، كما هو قول الشيعة(6).
ولا شك أنّ عليّاً(عليه السلام) كان من أُمراء السرايا، كما كان من العلماء ومن القوّام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من الأُمراء والولاة، ومن أهل الرأي من الصحابة، فهو مرادٌ بالآية على أيّ تقدير بالإجماع، كما بيّناه, أمّا غيره مهما كان ومَن كان فليس عليه مثل هذا الاتّفاق.
فإذا ثبت ذلك له(عليه السلام) وكان هو وليّ الأمر، فهو الذي يعيّن الذي بعده بحكم ولايته, وإذا قلنا بأنّه(عليه السلام) ليس له ذلك، فهو خلاف القول بالولاية.
ثانياً: إنّ الاستعانة في تفسير الآية بالروايات خلاف (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)، فليس كذلك صغرى وكبرى، أمّا الكبرى وهي (القرآن يفسّر بعضه بعضاً) فهي ليست آية، وهذا كتاب الله خال منها, ولا رواية عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإن زُعم أنّها رواية فلماذا لم يلتزم بها الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه؟
ولنضرب مثلاً واحداً في فريضة واحدة هي من أهم فرائض الإسلام، وهي الصلاة المفروضة خمس مرّات يومياً, ولنأخذ منها فعلاً واحداً من واجباتها كشاهد على ما نقول، وذلك هو: التشهّد، ونختار من أذكاره كيفية الصلاة على النبيّ وآله(عليهم السلام) فيه.
ولا يفوتنا التنبيه على أنّه قد ذهب إلى وجوبها من غير الشيعة الشافعي، وقال ابن حجر في (الصواعق): (( ...الذي ذهب إليه الشافعي هو الحقّ الموافق لصريح السُنّة ولقواعد الأُصوليين، ويدلّ له أيضاًً أحاديث صحيحة كثيرة استوعبتها في شرحي الإرشاد والعباب، مع بيان الردّ الواضح على من شنّع على الشافعي، وبيان أنّ الشافعي لم يشذ، بل قال به قبله جماعة من الصحابة، كـابن مسعود وابن عمر وجابر وأبي مسعود البدري وغيرهم، والتابعين، كـالشعبي والباقر وغيرهم، كإسحاق بن راهويه وأحمد، بل لمالك قول موافق للشافعي رجّحه جماعة من أصحابه, بل قال شيخ الإسلام خاتمة الحفّاظ ابن حجر - العسقلاني -ـ: لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلاّ ما نقل عن إبراهيم النخعي مع إشعاره بأنّ غيره كان قائلاً بالوجوب ))(7).
نقول: فإنّ كيفية هذه الصلاة في التشهد لم يکن يعرفها الصحابة، فسألوه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن كيفيّتها لمّا نزلت الآية: (( إنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلّونَ عَلَى النَّبيّ يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيه وَسَلّموا تَسليمًا )) (الاحزاب:56)، فقد صحّ عن كعب بن عجرة، قال: (( لمّا نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك؟ فقال: (قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد... إلخ ) ))(8).
فهذه الآية أمرت المؤمنين بالصلاة على النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أمّا كيف؟ ومتى؟ فذلك ما تكفّلت السُنّة ببيانه, ولم يُذكر في شيء من مصادر التفسير أو الحديث أنّ أحداًَ من الصحابة اعترض على الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال له: كيف فسّرت القرآن من نفسك، وإنّما (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)؟ أو قال له: إنّ الآية أمرتنا بالصلاة عليك وحدك ولم تذكر الآل معك، فمن أين أوجبت الصلاة عليهم ولم يرد ذلك في آية أُخرى تفسّر هذه الآية؟
وهذا الذي ذكرناه هو ما يأتي به المصلّي كلّ يوم في فرائض الصلوات الخمس، فكيف بباقي الأحكام؟ إذاً ليس (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)، وقد تبيّن حال الصغرى ممّا سبق أيضاً.
ثالثاً: لو التزمنا جدلاً بأنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، فإنّ في آي الذكر الحكيم ما يدلّ على تعيين (وليّ الأمر) كما في قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) (المائدة:55)، وحيث ثبت أنّ الولاية - في هذه الآية - هي لله ولرسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون لا لغيرهم بقرينة (إنّما)، وهي أداة حصر، فهذه فسّرت من هو المراد بـ(أُولي الأمر) في الآية المشار إليها في السؤال.
بقي تعيين مَن تنطبق عليه تلك الأوصاف الثلاثة مجتمعة: (الإيمان، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وهو راكع)، وهو ما ثبت لأمير المؤمنين(عليه السلام)، كما في تفسير ابن جرير، وكشّاف الزمخشري، والفخر الرازي، والقرطبي، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، والدرّ المنثور للسيوطي، وغيرهم(9).
وبهذه الآية التي تكفّلت معنى الولاية في المقام وأنّها من سنخ ولاية الله وولاية الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسّر الآية المشار إليها آنفاً في السؤال؛ فلاحظ!
وتعقيباً على ما تقدّم من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، نقول: إنّ آية المباهلة التي هي قوله تعالى: (( ...فقل تَعَالَوا نَدع أَبنَاءنَا وَأَبنَاءكم وَنسَاءنَا وَنسَاءكم وَأَنفسنَا وأَنفسكم... )) (آل عمران:61) قد نصّت على أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) هو نفس النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ حيث أخرج مسلم والترمذي وأحمد والبيهقي والحاكم والرازي والزمخشري وابن جرير والواحدي وابن حجر وغيرهم: أنّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا عليّاً وفاطمة والحسن والحسين، وقال: (اللّهمّ هؤلاء أهلي...)(10)، فإذا كان عليّ(عليه السلام) نفس الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنصّ الآية المذكورة، فلماذا تخلّف المسلمون عنه وقد أمرهم الله تعالى بأن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، كما في قوله تعالى: (( مَا كَانَ لأَهل المَدينَة وَمَن حَولَهم مّنَ الأَعرَاب أَن يَتخلّفوا عَن رَّسول اللّه وَلاَ يَرغَبوا بأَنفسهم عَن نفسه... )) (التوبة:120)؟
ولو لم يكن عليّ(عليه السلام) هو المراد لمّا عبّر تعالى عنه بقوله: (( عَن نفسه ))، ولقال: (ولا يرغبوا بأنفسهم عنه)؛ فلاحظ!
وأمّا أنّ المراد من (أولوا الأمر) في قوله تعالى: (( وَلَو رَدّوه إلى الرَّسول وَإلَى أولي الأَمر منهم لَعَلمَه الَّذينَ يَستَنبطونَه منهم... )) (النساء:83)، هم: أُمراء السرايا أوّل الكلام.
كيف وقد عممت الآية في أوّلها الأمر على حالتي الأمن والخوف لا خصوص حالة الخوف، كما يدّعي هذا المستشكل، قال تعالى: (( وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدّوه... )).
والآية نازلة لبيان حالة إشاعة الأراجيف بين المسلمين من قبل ضعاف النفوس، وأنّهم لو ردّوا الأمر إلى الرسول وإلى أُولي الأمر لأعلموهم حقيقة الحال وواقع هذه الأراجيف.
فهذه الآية ناظرة إلى ما يمس أمن الدولة واستقرارها، واتّخاذ القرار في هذا الشأن أنسب بمنصب الإمام ورئيس الدولة لا بأُمراء السرايا الذين هم قادة عسكريون. مع أنّ الآية ساوت في الردّ إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأُولي الأمر، وأخبرت بأنّ ما يستنبطونه يحصل به العلم، ولا يصحّ ذلك إلا إذا ثبتت لهم العصمة كرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنّ من قوله يحصل العلم لمحلّ العصمة، وأُمراء السرايا لا يصيبون دائماً؛ لأنّهم غير معصومين.
ومن هنا وردت الروايات الكثيرة عندنا بأنّ المراد من (أُولوا الأمر) في الآية هم: الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)(11).
فظهر من هذا أنّ (أُولي الأمر) في آية الولاية هم المعنيون نفسهم في قوله تعالى: (( وَلَو رَدّوه إلى الرَّسول وَإلَى أولي الأَمر منهم لَعَلمَه الَّذينَ يَستَنبطونَه منهم... )).
مركز الأبحاث العقائدية
(1) تفسير ابن أبي حاتم
(2) معاني القرآن للنحاس
(3) تفسير البيضاوي
(4) معاني القرآن للنحاس
(5) الفصول المختارة
(6) الفصول المختارة
(7) الصواعق المحرقة
(8) صحيح البخاري
(9) جامع البيان
(10) صحيح مسلم
(11) تفسير العيّاشي