اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حتى نعيش عيشة طيبة لابد من: معرفة الرب والتسليم لقدرته
لم يكن الناس يعرفون إبان عصر نزول القرآن أبعاد نعمة الحياة على الأرض كما يعرفون اليوم، وأن الأرض تختلف من جهات كثيرة عن سائر الكواكب الأخرى من حيث القوانين الطبيعية التي تحكمها، فجاء القرآن ليفتح أفقهم على معرفة هامة، وهي ان الكوكب الذي يعيشون على وجهه كسائر الكواكب يدور في هذا الفضاء الرحب، ولكنه يختلف عنها في كونه مهيأ من جميع الجوانب لحياتهم عليه، وكان حري بالإنسان وهو ينشد غزو الفضاء وركوب الكواكب الأخرى أن ينطلق من هذه الآية الكريمة: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) [الملك/15].
* معرفة الله:
أما هدف القرآن من بيان هذه الميزة للأرض التي نعيش فوقها، فليس أن يضيف إلى العلم معرفة فحسب، بل هنالك هدف أبعد من ذلك، ومن دونه لاتكون معارف البشر ذات قيمة حقيقية، ألا وهو تعريفه بربه، فأنه لو تفكر مليا، لعرف أن توفير الأرض لحياة البشر آية من آيات الله عزوجل.
بلى؛ ربما يفكر البعض في ذلك، ولكنك تجدهم يضلون بإجابات لا رصيد لها من الصحة، فإذا بهم يشركون بالله، فأما القدماء فكانوا يتصورون أن الأصنام أو الشياطين هي التي صنعت ذلك، وأما المعاصرون فقالوا إنها الصدفة!! ولكن القرآن الحكيم يذكر الإنسان بالحقيقة التي أركزت في فطرته، ويجد أصداءها حينما يستنير عقله، فينقذه من ضلالات الجهل والشرك.
لقد جعل الله تعالى الأرض ميسرة للإنسان، حيث جعل نظامها وما فيها لصالحه؛ طعاما وشرابا وهواء وزينة، وما إلى ذلك مما يحتاجه وينفعه كالليل والنهار والشمس والقمر..
وإذا ما دققنا النظر في خاتمة الآية 15 من سورة الملك، حيث يقول ربنا: ( وإليه النشور) ، نجدها تنسف كل القيم المادية التي تفسر الحياة تفسيرا شيئيا، وتحصر مسؤولية الإنسان في الوجود في مساحة ضيقة وتافهة، فإذا بها تنزل به إلى واد سحيق وطموحات ضالة، وكأنه يشبه الأنعام خلق ليأكل ليعيش بلا هدف.
كلا؛ إن الإنسان له أن يتعلم من الحياة والطبيعة من حوله درسا أساسيا، فلينظر إلى ما حوله، هل يجد شيئا خلق بلا هدف ؟ فما هو هدفه؟
دعه يبحث عن هدفه، فإنه سيجد هدفه أعظم من مجرد الأكل والشرب والتلذذ.. فأن له تطلعا أسمى، وطموحات أكبر، مثلا يتطلع كل إنسان لملك الأرض والخلود في الحياة، هل يتحقق له ذلك في الحياة؟ كلا؛ وبذلك يهتدي الإنسان الى الإيمان بالآخرة.
وتنطوي هاتان الكلمتان القرآنيتان ( وإليه النشور) على مجمل حقائق الإيمان، حيث الإيمان بالآخرة والتسليم لله عز وجل نفسيا بالإيمان وعمليا بإتباع رسله ومناهجه.
وعندما نتأمل في ترابط أجزاء الآية الكريمة (15/الملك) ببعضها، نكتشف حقيقة هامة، وهي إن على الإنسان أن يضع هدفه ويفكر في مستقبله الأبدي وهو يمارس الحياة بكل صورها؛ أكلا وشربا وسعيا في طلب الرزق، ومن ضرورة الأكل والشرب يجب عليه أن يتحسس حاجاته وهو يمضي إلى مصيره، ومن ركائز الحصول على الرزق السعي (أو بتعبير الآية المشي) ، وعليه يجب أن يعرف بأن وصوله إلى غاياته في الآخرة، هو الآخر يرتكز على السعي، وأن خير الزاد في ذلك السفر الطويل لهو التقوى.
وثمة إلتفاتة؛ أن الأكل والرزق في الآية أعم من ظاهرها، فالأكل صورة من صور الإستهلاك، والرزق هو عموم ما يحتاج الإنسان إليه، والآية بمجملها توحي بأن الأرض خلقت مذللة في بعض الجوانب، ولكن الله يريد للإنسان أن يذلها كلها بسعيه، وبالرغم من انه لا يقدر على تذليل كل شيء فيها، لتصبح الأرض جنة الفردوس، لأنه يتنافى مع حكمة خلق الإنسان فيها، ألا وهي الإبتلاء، فإنه قادر على تطوير حياته إلى الأفضل أبدا.
* قدرة الله:
وكما ينبغي للإنسان أن ينتفع من تذليل الأرض له من معرفة بربه، كذلك يجب عليه أن يستشعر قدرة الله على كل شيء، وأنه جل وعلا لو شاء لسلب تلك البركة منه، فإذا بتلك الأرض المذللة تصبح كالفرس الجامح تمور مورا، أو يحدث تغييرا في النظام الكوني فإذا بالسماء التي تحميها تستحيل منطلقا لعذاب مصوب لا طاقة للأرض وسكانها به، وتذكر هذه الحقيقة أمرين:
الأول: إنها إلى جانب تنعم الإنسان ببركات الله ورحماته التي في الطبيعة، تعطيه توازنا نفسيا وعقليا وعمليا، يسوقه نحو المسيرة الصحيحة في الحياة، فلا تبطر به النعم وتضلله عن أهدافه، فإنه متى وصل الإنسان إلى اليقين بقدرة الله عليه، سلم له أمره، وإتصل به، وخضع له، وهذه من أعظم أبعاد الخشية منه تعالى.
الثاني: إنها تجتث من نفس الإنسان جذور الشرك، لكي لا يأمن مكر الله ثم يعصيه إعتمادا على الشركاء المزعومين (كالشياطين والأصنام والملائكة، بأنهم قادرون على مقاومة قدرة الله ومنع مشيئته) أو إسترسالا مع رحمته تعالى.
لذلك قال ربنا عز وجل: ( ءامنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير) .[الملك/ 16-17].
ونتساءل: ماهي العلاقة بين تحذير الله للناس من الكفر، وتهديده بتحطيم النظام الكوني لو كفروا؟
الجواب؛ لأنه تعالى إنما خلق الوجود؛ الحي والميت لأجل الإنسان، فإذا أفسد البشر حكمة وجوده، بطلت حكمة الوجود الذي حوله أيضا.
وما تحمله آيات الله من الإنذار لا تستوعبه إلا قلوب المؤمنين، فإذا هم يخشون ربهم بالغيب، أما الكافرون والمشركون فهم في غفلة عنه، لأنهم محجوبون بالجهل والشرك عنه، وذلك لأنهم ماديون، لا يرون إلا الأمور الظاهرة، ذلك لأن العقل هو الذي يهدي الإنسان إلى الباطن من خلال الظاهر، وإلى الغيب عبر الشهور، وهو معطل لديهم، كما أنهم لا يسمعون الموعظة من العقلاء. ولكن القرآن لا يكتفي بالمستقبل الغائب دليلا على حقائقه، بل ويستدل عليها بالشواهد الظاهرة لكي لا يبقى لبشر ما يبرر له الكفر والزيغ، ولتكون له الحجة البالغة، فما هو الدليل على عذاب الله وقدرته على صنع ما يشاء؟
لندرس التاريخ البشري، فهو خير معلم للإنسان، حيث يهديه إلى سنن الله وآيات معرفته، ونحن حينما نتبع حوادثه، فسنجد الكثير من الأمم والمجتمعات التي ذهبت ضحية كفرها وفسوقها عن أمر الله، فذاقت ألوانا من العذاب لا يستوعبها فكر بشر، لهولها وفظاعتها.
قال الله تعالى: (ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير) [الملك: 18].
فأين قرى لوط المؤتفكة؟ وأين فرعون وقومه؟.. إنك لن تجد غير إجابة واحدة : إنهم دحروا وبادت قراهم، لأنهم لم يخشوا ربهم ولم يتبعوا رسالات الله ورسله.
وخلاصة القول؛ لابد لكل إنسان أن يعرف ربه من خلال آيات الخلق ومفردات الحياة.. من خلال مشيه على الأرض وأكله الرزق..
وهذا وحده لا يكفي، بل لابد له من التسليم لقدرة الله وطاعة أمره، حتى يعيش الإنسان عيشة طيبة وحياة هنيئة. ومن يتنكر لمعرفة الله وقدرته، ولم يطع الله في أوامره، فليعيش عيشة ضنكا، وليرتقب عذاب الآخرة.