يقولون ربّنا هب لنا قرّة أعين
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74).
وتشير الآية الشريفة التي بين أيدينا إلى موضوعين:
الأول، اهتمام عباد الرحمن بالعائلة،
والثاني، الاهتمام بإصلاح ورقي المجتمع.
أما فيما يتعلق بالموضوع الأول فتقول الآية الشريفة إنّ عباد الله اللائقون لعبادته هم الذين يبادرون إلى إصلاح عائلاتهم ويرغبون في أن تكون زوجاتهم وأبناؤهم من الصالحين،
وقد امتاز الأنبياء والصالحون بهذه الخاصية، حيث ينقل القرآن الكريم أن إبراهيم وابنه عندما كانا يبنيان بيت الله،
كانا يدعوان بهذا الدعاء:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: 128).
إنّ مقام النّبي إبراهيم (ع) مقام عالٍ كما تبين الآيات القرآنية. وتوضح الروايات أن الله تعالى قد منح إبراهيم مقام النبوّة والرّسالة
ثم أعطاه مقام «الخلّة»؛ {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125)
ثم أعطاه مقام الإمامة {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما} (البقرة: 124)
فكان هذا المقام أعلى مقام ومنزلة لإبراهيم عند الله تعالى. ثم وبعد أن أُعطي إبراهيم (ع)هذا المقام
توجه مباشرة إلى الله فقال: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} (البقرة: 124)؛
فجاءه الجواب من الله تعالى: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
هذه سيرة النبي إبراهيم (ع) الذي كان يعمل لنفسه ويفكِّر في صلاح ذريته وعائلته.
* قـرة أعـين عبـاد الرحمـن
ولكن ما المقصود من عبارة {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}؟
لقد استعملت عبارة «قرَّة العين» ثلاث مرات في القرآن الكريم:
الأولى، في هذا المكان الذي نحن بصدد الحديث عنه؛
الثانية، ما جاء حول صفات عباد الله حيث ذكر ذلك
في سورة السجدة:
{...تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ... } (السجدة: 16 ـ 17).
وقد جاء في الرواية: «ولا خطر على قلب بشر» (1)
وهذا يعني أن البشر عاجزون عن تصورها. فقرة الأعين أعلى من باقي النِّعم، على أساس أنّه يمكن فهم باقي النّعم، أما قرة الأعين التي جعلها الله لخواصّ عباده فلا يمكن تصوّرها.
أما المرة الثالثة التي وردت فيها هذه الكلمة فهي في قصة ولادة النبي موسى (ع)
حين طلبت امرأة فرعون من زوجها أن تحتفظ بالطفل النبي موسى (ع) لأنها كانت عاقراً، وذلك ليكون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} (القصص: 9).
لذلك كان موسى (ع)، وكما ورد في القرآن، قرة عين لفرعون وزوجته.
* فلسـفة كـون الزوجـات والأبنـاء قـرة أعـين
إن فلسفة كون الزوجات والأبناء قرة أعين يمكن تفسيرها على الشكل التالي:
إن الإنسان يمتلك ميلاً غريزياً نحو الزوجة والأبناء. وهذه حكمة إلهية جعلها الله تعالى في الإنسان، بالأخص فيما يتعلق بالزوجة التي هي عامل من عوامل بقاء الإنسان. فلو لم يكن هذا الميل موجوداً عند الإنسان، فلن يكون الإنسان جاهزاً لتحمّل المشقّات من أجل العائلة.
وأما الفلسفة الوجودية لهذه الغريزة الطبيعية في الإنسان، فهي أنها تؤدي إلى بقاء نسل الإنسان وتساعده في الاستمرار. يضاف إلى ذلك أن الله تعالى قد جعل بين الأزواج المودة والمحبة بهدف ثبات العائلات.
جاء في القرآن الكريم:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21).
وهذه المودة والرحمة هما أمران يختلفان عن الجذب الغريزي. فالميل الغريزي يؤدي إلى اختيار الزوجة وتشكيل العائلة وبعد ذلك تسود المحبّة والمودّة بين الأزواج باعتبارها سبب ثبات العائلات.
بناءً على ما تقدم، فإنّ مقتضى الحكمة الإلهية وجود هكذا محبة بين الرجل والمرأة وبين الأزواج وبين الوالدين والأولاد لتتحرك مسيرة الحياة ويتم تشكيل العائلة فينشأ المجتمع منها.
* الإفـراط فـي حـب الأبنـاء
إن المودة والرحمة اللتين جعلهما الله تعالى بين الأزواج أو بين الوالدين والأولاد تصبح حالة إفراطية إذا تجاوزت حدودها وهذا يعني وجود انحراف فيها.
فإذا أفرط الوالد والوالدة في محبة الولد لا يمكن بعد ذلك تربيته بشكل صحيح وستكون سبباً في شقائه، بل سيصبح شخصاً فاقداً للهوية، وسيكون سبب شقاء الأبناء مع العلم أن المحبة ينبغي أن تكون سبب سعادتهم. وكما أن الأبناء المحرومين من محبة الوالد والوالدة قد يصبحون مجرمين، فالإفراط في المحبة تجعلهم يصبحون أشخاصاً لا هوية لهم، تافهين تابعين لا يحملون أي نفع لأنفسهم وللآخرين.
* الاعـتدال سـر بقـاء العائـلات
هنا كما في كافة مجالات الحياة الأخرى ينبغي الاعتدال؛ فالإفراط والتفريط كلاهما انحراف. وقد تؤدي المحبة الإفراطية بالإنسان إلى ترك تكاليفه؛ فلو أحاطت محبة الزوجة والأبناء قلب الإنسان، سنراه يتخلى عن التكليف إذا ما حصل تزاحم بين الاثنين.
جاء في الآية الشريفة:
{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 23)
فهذه المحبة إذا تجاوزت حدودها، ستجعل الزوجة والولد أكثر محبة عند الإنسان من الله والجهاد في سبيله؛ لذلك نقول إن المحبة الإفراطية هي سبب شقاء الإنسان وسبب ترك الواجب، وترك الواجب يعني جعل مصالح الإسلام مهددة بالخطر.
وفي تلك الحال يهدد الله تعالى بقوله {فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24)
وهذا تهديد عجيب!
ولذلك إذا كان صحيحاً أن الزوجة والولد هما قرة عين الإنسان فلا بدّ أن تتجلّى محبّتهما في شكل معتدل، فلا ترجح محبة الزوجة والولد على التكاليف الإلهية فيمتنع عن القيام بها.
الهوامش:
(1) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 281.
.....يتبع