اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الأمام الخميني قدس سره يعرض مفهوم المسجد ليس من جهة كونه بناء يتردد إليه الناس في أوقات من النهار، بل يتوسع بهذا المفهوم، ليجعله يشير إلى ساحات معينة يصل الإنسان المخلص في كل نشأة من نشآت وجوده. فهو المعنوية التي تعبر عن الاتصال بالله سبحانه وتعالى، والتوجه والانقياد إليه سبحانه.
ويشير الإمام الخميني قدس سره إلى ثلاث من هذه النشآت:
أ: النشأة الطبيعية والمرتبة الظاهرية الدنيوية، ومكانها أرض الطبيعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"4.
ويقول قدس سره: "فللسالك أن يفهم نفسه ويذوق بذائقة روحه أن دار الطبيعة هي مسجد عبادة الحق وانه قدم إلى هذه النشأة لأجل هذا المقصد كما يقول الحق جل وعلا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾..."5.
وإذا كانت الدنيا كلها مسجداً فهذا يعني أن المؤمن فيها بحالة اعتكاف مستمر. يقول الإمام الخميني قدس سره: "فإذا وجد دار الطبيعة مسجداً للعبادة ورأى نفسه معتكفاً فيه، لا بد وان يقوم بآدابه ويصوم عن تذكر غير الحق، وألاّ يخرج عن مسجد العبودية إلاّ بقدر الحاجة.
فإذا انقضت حاجته يعود ولا يستأنس بغير الحق ولا يتعلق قلبه بغيره، فإن هذا كله خلاف آداب العكوف على باب الله..."6.
2ـ مرتبة القوى الظاهرة والباطنة التي هي جنود ملكية وملكوتية للنفس، ومحلها الأرض الطبيعية الإنسانية، وهي هذه البنية والبدن7.
حيث يجعل هذه النفس مسجداً يحرم دخول الشياطين عليه ويسجد فيها جنود النفس. يقول الإمام الخميني قدس سره: "وأدب السالك في هذا المقام أن يفهم باطن قلبه بأن أرض الطبيعة نفسه وهي مسجد الربوبية ومحل السجدة للجنود الرحمانية"8.
وأحكام المسجدية تسري عليه. فلا يجوز تنجيسه بنجاسات الأعمال الشيطانية والهوى. يقول الإمام الخميني قدس سره: "فلا ينجسها بقاذورات تصرف إبليس كي تشرق أرض الطبيعة بشروق نور الرب وتخرج عن ظلمة البعد عن الساحة الربوبية وكدورته. فيرى قواه الملكية الملكوتية معتكفة في مسجد البدن ويعامل بدنه معاملة المسجد. ومع قواه بعين العكوف إلى فناء الله، وتكليف السالك في هذا المقام أكثر لأن تنظيف المسجد وطهارته أيضاً على عهدته كما انه بنفسه أيضاً يتكفل أدب المعتكفين في هذا المسجد"9.
3ـ "النشأة الغيبية للسالك ومحلها البدن البرزخي الغيبي للنفس الذي يتكون بإنشاء النفس وخلاقيتها"10. وهذه النشأة تعتبر الأساس ولها انعكاسها على باقي النشآت. ويشير إلى ذلك الإمام الخميني قدس سره: "والأدب للسالك في هذا المقام أن يذوق نفسه أن التفاوت بين هذا المقام والمقامات الأخر كثير وحفظ هذا المقام هو من مهمات السلوك لأن القلب هو إمام المعتكفين في هذا الجانب وبفساده يفسد الجميع، إذا فسد العالِم فسد العالَم"11.
ويختلف هذا المقام عن المقامين السابقين لأن تكليف الإنسان لا ينحصر بتطهيره ورفع الدنس منه والتعامل معه كمسجد، بل هو مكلف ببناء هذا المسجد من الأساس، فهذا يختلف عن سابقيه في أن بناء هذا المسجد النفسي عهدته على الإنسان فعليه أن يبدأ بهذا البناء ليصل بعد ذلك إلى الاعتكاف. يقول الإمام الخميني قدس سره: "وتكاليف السالك في هذا المقام تكون أكثر من هذين المقامين لأنه قد كلف بناء المسجد أيضاً بنفسه ومن الممكن لا سمح الله أن يكون مسجده مسجد ضرار وكفر وتفريق بين المسلمين، ولا يجوز في هذا المسجد الملكوتي الإلهي بيد التصرف الرحماني وبيد الولاية وطهر بنفسه هذا المسجد عن جميع القاذورات والتصرفات الشيطانية واعتكف فيه فلا بد له أن يجاهد حتى يخرج نفسه من العكوف في المسجد ويعتكف بفناء صاحب المسجد فإذا تطهّر عن التملق بالنفس وخرج عن قيد نفسه يصير هو بنفسه منزلاً للحق بل مسجداً للربوبية ويثني الحق على نفسه في ذاك المسجد بالتجليات الفعلية ثم الاسمائية ثم الذاتية وهذا الثناء هو صلاة الرب يقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح"12.
وبعد كل هذا يتضح أن حجر الأساس للمجتمع الإسلامي ومحور حركة الإسلام المسلم الرسالي، كل ذلك تختصره كلمة " المسجد"!
كتاب: المسجد في فكر الإمام الخميني
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين