اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المسألة
قوله تعالى في شأن سليمان (ع): ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾
أورد بعضهم على ما أفادته الآية من خفاء موت سليمان (ع) مدةَ سنةٍ كاملة أو ما يقرب من هذه المدة انَّه غير معقول، فلو سلَّمنا بـأنَّ سليمان ظلَّ قائماً بعد موته كلَّ هذه المدَّة لكنَّ خفاء موته كلَّ ذلك الوقت عن حاشيته ووزرائه وأزواجه وأبنائه وخدمه غيرُ معقول، ألم يلتفت خدمه إلى عدم تناوله للطعام والشراب ؟! ألم يُراجعه وزراؤه في تدبير شئون الدولة؟! ألم تُحادثه احدى زوجاته اليوم واليومين فلا تجد منه جواباً ولا حراكاً؟! كيف لم يستثر وقوفه في موضعه ليل نهار دون حركةٍ تساؤلهم ولم يدفعهم ذلك للتثبُّت من واقع حاله؟!
فما هو جوابكم عن هذه الشبهة ؟
الجواب
ليس في الآية ولا في غيرها من آيات القرآن ما يقتضي استظهار انَّ موت سليمان (ع) كان قد خفيَ على كلِّ مَن كان حوله من وزرائه وحاشيته وأبنائه وزوجاته بل إنَّ ظاهر الآية المباركة انَّ موته كان قد خفي على من كان يعمل عنده من الجن ولعلَّه قد خفي عمَّن كان يعمل عنده من الإنس وخفي كذلك عن رعيته، وأما المقرَّبون منه فالآية لم تتصدَّ لبيان انَّهم كانوا قد علموا بموته أو انَّه قد خفيَ عليهم ذلك.
فالآيتان السابقتان لهذه الآية تصدَّتا لبيان انَّ الله تعالى قد سلَّط سليمان على الجنّ، فكانوا يعملون بين يديه بإذن ربِّه وكلُّ مَن يتمرَّد منهم على أوامره يكون جزاؤه العذاب، فكانوا يعملون له ما يشاء من محاريب، فهم مَن كان يُشيِّد له ولرعيته دور العبادة، وفيهم مَن يصنع له التماثيل والجفان العملاقة التي شبَّهتها الآية بالْجَواب وهي الأحواض الكبيرة ، فكانت الجِفان -وهي صحائف الطعام التي يتمُّ تصنيعها لسليمان من القطر المُذاب- بحجم الأحواض الكبيرة تتناول فيها -ظاهراً- جيوشُه الطعام، ومن الجنِّ من يصنع له القدور الراسيات، فهي قدور ثابتة لعظَمِ حجمها، قال تعالى:
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾
بعد هاتين الآيتين قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾
فالذين نفت عنهم الآية العلم بموت سليمان (ع) هم الجنُّ الذين كانوا يعملون بين يديه كلَّ تلك الأعمال الشاقَّة ويخشون إنْ تمرَّدوا الوقوع في العذاب لذلك شعروا بالانفراج حين علموا بموته بعد ان خرَّ على وجهه، وأسِفوا انَّهم ظلَّوا يتكبدون قساوة العمل المُناطِ بهم من قِبله رغم انَّه كان ميتاً منذ أمد، فلو انَّهم علموا بموته من حينه لما لبثوا بعده يعملون كلَّ تلك الأعمال الشاقَّة، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ أي عذاب العمل الشاق.
إذن فأقصى ما يقتضيه ظهور الآية المباركة هو انَّ الذين خفيَ عليهم موتُ سليمان (ع) هم الجن الذين كانوا يعملون عنده، وليس في الآية ما يقتضي استظهار خفاء موته عن مثل حاشيته ووزرائه، ولمَّا كان الأمر كذلك فمن المعقول جداً أنْ يعلم المقرَّبون منه بموته ولكنَّهم تعمَّدوا اخفاءه لأغراضٍ قد يكون منها إدراكهم انَّه لو شاع موتُ سليمان (ع) فإنَّ الجنَّ سوف لن يُنجزوا الأعمال التي كلَّفهم بها سليمان، إذ ليس لوزرائه ما لسليمان (ع) من السلطنة على الجن، لذلك أخفى المقرَّبون منه خبرَ موته إلى انْ شاء اللهُ تعالى اظهار ذلك، فأين هو عدم المعقوليَّة في ذلك؟!
ويُؤيد ما ذكرناه -من عدم خفاء موت سليمان على المقرَّبين منه- ما ورد في الروايات عن ابن عباس عن الرسول الكريم (ص) -انَّ سليمان لما علم بقرب أجله- قال: "... اللهم غمَّ على الجنِّ موتي حتى يعلم الانس انَّ الجن لا تعلم الغيب
وفي رواية أخرى "فقال: اللهم عمِّ على الجن موتي، ليعلم الإنس أنَّهم لا يعلمون الغيب. وكان قد بقي من بنائه سنة، وقال لأهله لا تخبروا الجنَّ بموتي حتى يفرغوا من بنائه ، ودخل محرابه، وقام متكئاً على عصاه، فمات، وبقي قائما سنة. وتمَّ البناء
ورويَ عن أبي عبد الله الصادق (ع) انَّه قال: "كان آصف يُدبِّر أمره حتى دبَّت الأَرَضة"
إذن فالروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) تُؤيِّد ما ذكرناه من انَّ الآية ليست ظاهرةً في أنَّ موت سليمان (ع) كان قد خفي حتى على المقرَّبين منه بل أفادت الروايات انَّ سليمان (ع) هو مَن أوصى بإخفاء خبر موته عن الجن، وكان من غرضه هو انْ ينُجزوا البناء الذي كلَّفهم بتشييده، مضافاً إلى انَّ خفاء موته برهةً من الوقت سيُبدِّد ما كان يتوهَّمه الناس من أنَّ الجنَّ يعلمون الغيب، وأفادت بعض الروايات انَّ وصيَّه آصف بن برخيا كان يُدير شئون الدولة في تلك الفترة إلى أنْ تمَّ البناء وتآكلت العصا التي كان يتكأ عليها بفعل الأرَضة.
وأما كيف خفيَ على الجن خبر موت سليمان (ع) كلَّ تلك المدَّة فالجواب انَّ الآية لم تُحدِّد مقدار تلك المدَّة وإنْ كانت الروايات قد حدَّدتها بالسنة إلا انَّه ورغم ذلك ليس ثمة ما يمنع من امكانيَّة إخفاء موته كلَّ تلك المدَّة عن الجن بل عن مطلق رعيته فإنَّه حين يتعلَّق غرض المقرَّبين من سليمان في إخفاء خبر موته فإنَّه لن يكون متعسِّراً عليهم خصوصاً في ذلك الزمان الذي تنعدم فيه أو تكاد تنعدم فيه وسائل الاتصال والتواصل، فبوسع المقرَّبين التمويه على الرعية واظهار ما ينتج توهُّم الرعية انَّ سليمان حيٌّ يُرزق ويُدير شئون الدولة بواسطة وزرائه خصوصاً وانَّ من رجاله امثال آصف بن برخيا الذي تمكَّن من الإتيان بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام في طرفة عين كما أفاد القرآن.
هذا وقد أفادت بعض الروايات انَّ سليمان حين موته كان في قبَّةٍ عاليةٍ من قوارير مشرفة على مَن كان يعمل عنده في تشييد البناء، فكان يراهم ويرونه، فأيُّ مانعٍ في أنْ يضع المقرَّبون حجاباً يستر سليمان عن عماله في كلِّ يوم ثم يرفعونه ايهاماً منهم في انَّ سليمان كان قد خلَد للراحة أو العبادة أو انَّه ذهب لإدارة شئون الدولة ثم عاد لمراقبتهم ثم اتَّفق بعد العام انَّه وبعد رفع المقرَّبين للحجاب وظهور سليمان أمام عماله من وراء القوارير سقط على وجهه فاستثار ذلك اهتمامهم وحينها انكشف لهم انَّه قد مات.
وبذلك ومثله ينتفي الإشكال من جهة انَّه كيف كان سقوط سليمان بعد انكسار العصا سبباً في اكتشاف الجن لموته، فإنَّ الجنَّ وغيرهم من العمال كانوا يرون سليمان مشرفاً عليهم من وراء القوارير وكانوا يتوهَّمون انَّه كان ينظر إليهم ويُراقبهم ولم يكن في البين ما يوجب الريب في موته فهو قائمٌ مستقبلٌ لهم متكأٌ على عصاه، ويغيب عنهم بين الفينة والأخرى بعد ضرب الحجاب واسدال الستار ثم حين يُرفع الحجاب يجدونه قائماً مستقبلاً لهم متكأً على عصاه لذلك ليس ثمة ما يُوجب ارتيابهم في انَّه حيٌّ يُراقبهم وينتظر منهم انجاز العمل الذي كلَّفهم به، نعم كان سقوطه فجأةً وانكسار العصا موجباً لاستثارة فضولهم وتساؤلهم كيف يتكأ سليمان الملك على عصا خاويةٍ وهشَّة؟! وما هي حاله بعد سقوطه على وجهه؟ هل كان سقوطه لنوبةٍ أصابته أم انَّه قد مات ولذلك سقط على وجهه؟ فمثل هذه التساؤلات دفعتهم للتحرِّي والبحث عن مصير نبيِّهم وملكهم، فأحوال الملوك ومصائرهم تسترعي اهتمام رعاياهم، وحيث انَّ الدوافع من إخفاء موته قد تحقَّقت أو تحقَّق أكثرها لذلك لم يجد المقرَّبون ما يستوجب البقاء على قرار التكتُّم، وبذلك يكون انكسار العصا سبباً في انكشاف موت سليمان (ع) أي انَّه كانت هي الواقعة التي أفضت تداعياتها لاكتشاف موت سليمان (ع).
وأما انَّه كيف بقيَ سليمان (ع) قائماً بعد موته وظلَّ كذلك قرابة العام فلم يسقط ولم يطرأ على جثمانه ما يطرأ على الأموات بعد أيامٍ قلائل من وقوع الموت عليهم.
فجواب ذلك هو ذاته الجواب الذي تُفسَّر به المعجزات والخوارق التي صدرت في تاريخ الرسالات على أيدي الأنبياء بإذن الله تعالى تأييداً لهم وبرهاناً على صدقهم وكرامتهم على ربِّهم.
سماحة الشيخ محمد صنقور
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين