بيّنا في مقالاتٍ سابقة أنّ أهل التقوى لهم مراتب، وأنّهم يختلفون في درجاتهم من حيث المعرفة والعمل الصالح، وهذا معناه أنّ ولاية الله لهم، تلائم حالهم في إخلاص الإيمان والعمل، لأنّ الله تعالى يقول:(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)2،ويقول: (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)3.
وعلى هذا الأساس، فنصيب المخلصين من أولياء الله من هذه الآية شيء، ونصيب من هو دونهم من المؤمنين المتوسّطين شيء آخر. أمّا نصيب المخلصين فهو أنّ من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)4
ولا يتمّ ذلك إلاّ بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته، ثمّ تورّعه واتقائه بالاجتناب عن لمحرّمات وتحرز ترك الواجبات خالصاً لوجهه الكريم (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)5.
ولازمه أن لا يريد إلاّ ما يريده الله من فعل أو ترك، ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله، فلا يصدر عنه فعل إلاّ عن إرادة من الله. ولازم ذلك أن يرى نفسه وما يترتّب عليها من سمة أو فعل، ملكاً طلقاً لله سبحانه، يتصرّف فيها ما يشاء، وهو ولاية الله، يتولّى أمر عبده، فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شيء إلاّ ملّكه الله سبحانه، وهو المالك لما ملّكه، والمُلك لله عزّ اسمه. وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك بالتعلّق بالأسباب الظاهرية (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَيَحْتَسِبُ)6.
أمّا الرزق المادّي، فإنّه كان يرى ذلك من عطايا سعيه، والأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها، وما كان يعلم من الأسباب إلاّ قليلاً من كثير، كقبس من نار، يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه، وهو غافل عمّا وراءه، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب، وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء، ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها. وأمّا الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي تعيش به النفس الإنسانية وتبقى، فهو ممّا لم يمكن يحتسبه، ولا يحتسب طريق وروده عليه. وبالجملة هو سبحانه يتولّى أمره، ويخرجه من مهبط الهلاك، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئاً، لأنّه توكّل على الله، وفوّض إلى ربّه ما كان لنفسه. (ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب أُخرى. (إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) لأنّ الأمور محدودة محاطة له تعالى و(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً) 7 فهو غير خارج عن قدره الذي قدّره به.
وأمّا نصيب من هو دونهم من المؤمنين فهو أنّ من يتّق الله ويتورّع عن محارمه، ولم يتعد حدوده، واحترم شريعته، فعمل بها؛ (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من مضائق مشكلات الحياة، فإنّ شريعته فطرية، يهدي بها الله الإنسان إلى ما تستدعيه فطرته، وتقضي به حاجته، وتضمن سعادته في الدنيا والآخرة (وَيَرْزُقُه) من الزوج والمال، وكلّ ما يفتقر إليه من طيب عيشه، وزكاة حياته (منْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب) ولا يتوقّع، فلا يخف المؤمن أنّه إذا اتقى الله، واحترم حدوده، حرم طيب الحياة، وابتلي بضنك المعيشة، فإنّ الرزق مضمون، والله على ما ضمنه قادر.
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله) فاعتزاله عن نفسه فيما تهواه وتأمر به، وإيثاره إرادة الله سبحانه على إرادة نفسه، والعمل الذي يريده الله، على العمل الذي تهواه وتريده نفسه، وبعبارة أُخرى تدين بدين الله وتعمل بأحكامه (فَهُوَ حَسْبُه) أي كافيه فيما يريده من طيب العيش، ويتمنّاه من السعادة بفطرته، لا بواهمته الكاذبة. وذلك أنّه تعالى هو السبب الأعلى الذي تنتهي إليه الأسباب، فإذا أراد شيئاً فعله وبلغ ما أراده من غير أن تتغيّر إرادته، فهو القائل: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)8 أو يحول بينه وبين ما أراده مانع، لأنّه القائل: (واللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِه)9.
وأمّا الأسباب الأخر التي تشبّث بها الإنسان في رفع حوائجه، فإنّما تملك من السببية ما ملّكها الله سبحانه، وهو المالك لما ملّكها، والقادر على ما عليه أقدرها، ولها من الفعل مقدار ما أذن الله فيه، فالله كاف لمن توكّل عليه لا غيره (إنَّ اللهُ بَالِغُ أَمْرِه) يبلغ حيث أراد، وهو القائل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)10، (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْرا) ً(فما من شيء إلاّ له قدر مقدور، وحدّ محدود، والله سبحانه لا يحدّه حدّ ولا يحيط به شيء، وهو المحيط بكلّ شيء)11.
إذن عندما يدعو الإنسان ربّه أن يكون مدخله مدخل صدق، ومخرجه مخرج صدق، ويريد اليسر والتيسير في حياته، فالطريق إلى ذلك يمرّ من خلال التقوى.
قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيرا)12.
وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)13.
وقال أيضاً: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى)14.
وقال : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ٭ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ٭ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)15. أي (لا يضلّ في طريقه ولا يشقى في غايته التي هي عاقبة أمره، وإطلاق الضلال والشقاء يقضي بنفي الضلال والشقاء عنه في الدنيا والآخرة جميعاً، وهو كذلك، فإنّ الهدى الإلهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان أنبيائه، ودين الفطرة هو مجموع الاعتقادات الأعمال التي تدعو إليها فطرة الإنسان وخلْقته، بحسب ما جهز من الجهازات)16.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولو أنّ السموات والأرضين كانتا على عبد رتقاً(17)، ثمّ اتقى الله، لجعل الله له منهما مخرجاً)18.
وقال أيضاً: (واعلموا أنّه من يتَّقِ اللهَ يجعلْ له مَخْرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم)19.
وقال أيضاً: (فإنّ تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلّ ملكة، ونجاة من كلّ هلكة، بها ينجح الطالب وينجو الهارب وتُنال الرغائب)20.
ـــــــــــــــــ
(1) الطلاق: 2 ، 3 .
(2) آل عمران: 68.
(3) الجاثية: 19.
(4) آل عمران: 102.
(5) الأعراف: 29.
(6) الطلاق: 2.
(7) الطلاق: 4.
(8) ق: 29.
(9) الرعد: 41.
(10) يس : 82.
(11) الميزان في تفسير القرآن، ج19 ص313.
(12) الإسراء: 80.
(13) الطلاق: 4.
(14) طه: 123.
(15) الليل: 5 ـ 7.
(16) الميزان، مصدر سابق، ج14، ص224.
(17) الرتق: الضمّ والالتحام خِلقةً كان أم صنعة، قال تعالى: كانتا رتقاً ففتقناهما أي منضمّتين. المفردات في غريب القرآن، مادّة «رتق».
(18) نهج البلاغة، من كلام له عليه السلام ، رقم: 130.
(19) نهج البلاغة، الخطبة: 183.
(20) نهج البلاغة، الخطبة: 230.
من مقالات سماحة السيد كمال الحيدري