الحكاية التالية تبين جميل آثار الثقة بالله عزوجل والتسليم لأمره والرضا بقضائه وهو أكرم الأكرمين.
وقد رواها أحد العلماء المعاصرين الأجلاء هو آية الله الخطيب الجليل الشيخ حسين أنصاريان حفظه الله، وقد سمعها من صاحبها مباشرة ونشرها في أواخر كتابه القيم المطبوع بالفارسية من قبل دار العرفان بقم المقدسة تحت عنوان (أهل بيت – ع – عرشيان فرش نشين) أي (أهل البيت هم أهل العرش النازلون الى الأرض) والكتاب مترجم الى العربية ومطبوع في بيروت تحت عنوان (أهل البيت ملائكة الأرض) ومنه ننقل خلاصة هذه الحكاية.
قال سماحة الشيخ أنصاريان:
(أمضيت ما يناهز إثنتين وعشرين عاماً من عمري في دراسة معارف أهل البيت – عليهم السلام – في حوزة قم، وكنت أذهب الى طهران أيام تعطيل الدراسة فيها لزيارة أرحامي، وذات يوم ذهبت لعيادة العالم الجليل المخلص في الدفاع عن حريم الولاية آية الله سلطان الواعظين الشيرازي مؤلف كتاب (ليالي بيشاور) فوجدت عنده سيداً جليلاً إسمه السيد الحسيني فعرفه لي بأنه من المؤمنين الملتزمين بحضور المجالس الدينية وعرفني له بأنني من طلبة حوزة قم ثم طلب منه أن يحكي لي قصته فاستجاب وقال:
بدأت قصتي عندما استيقظت قبيل فجر أحد الأيام لأداء صلاة الصبح، فوجدت نفسي عاجزاً عن القيام لإسباغ الوضوء.. فطلبت من زوجتي أن تعينني على النهوض، فحاولت لكنني لم أستطع النهوض أصلاً، فأديت الصلاة وأنا مستلق على الفراش، وفي الصباح أحضروا لي طبيباً ففحصني ثم قال بأسف ظاهر:
يا سيد حسيني، لقد أصبت بالشلل نتيجة صدمات شديدة في النخاع لا أمل معها في الشفاء!
ثم أخذوني الى مستشفيات عدة في ايران وفرنسا وأميركا كانت نتائج فحوصاتها تؤكد ما قاله هذا الطبيب، لقد اطلعت بنفسي على ملفي الطبي في مستشفى باريس وعرفت أنني مصاب بقطع النخاع الشوكي وأنني سأبقى مشلولاً بقية عمري..
بعد العودة الى ايران قلت لزوجتي: سأذهب الى طبيب غير الأطباء الذين فحصوني في ايران وأوربا وأميركا.. فالطب لا ينحصر في هذه الدول.. إستصدري لنفسك جواز سفر لنذهب لزيارة مولاي الحسين عليه السلام... لا تحدثي أحداً بذلك فربما لا تكون ثمة مصلحة في شفائي فأعود الى ايران مشلولاً فيؤثر ذلك سلباً على ضعاف الإيمان!
توجه هذا المؤمن الحسيني الى المشاهد المشرفة وهو على ثقة بجميل صنع الله وحكمته مسلم أمره له عزوجل حتى لو لم يقدر له الشفاء.. فجزاه الله الجزاء الأوفى على حسن ظنه، قال في تتمة حكايته حسبما نقلها عنه آية الله الشيخ حسين أنصاريان:
(كانت محطتنا الأولى كربلاء واقترن وصولنا إليها في مطلع شهر رجب الأصب فأمضينا الشهر المبارك كله في جوار مشهد سيد الشهداء – عليه السلام – ولما طال بنا المكوث دون أن نرى علامات الشفاء قلت لزوجتي:
لا تيأسي من رحمة الله، إن أخلاق أهل البيت من أخلاق الله وهم يحبون أن نمكث في جوارهم وندعو الله ونمجده ونحمده...
وبعد مضي ثلاثة أيام من شهر شعبان توجهنا الى النجف لزيارة أميرالمؤمنين – عليه السلام – وقلت لزوجتي: نذهب لزيارة المشاهد المشرفة في سامراء ثم الكاظمية ثم نعود الى ايران ونقول لمن زارنا: إن أطباء العراق لم يجدوا لي علاجاً أيضاً..)
وما بلوغ التسليم لقضاء في هذا المؤمن السيد الحسيني وزوجته الصابرة هذه المرتبة السامية الجميلة جاء الفرج قبل أن يصلوا الى مشاهد سامراء ومقام المهدي المقدس فيها، قال السيد متابعاً حكايته:
(بعد أن زارنا السيد محمد بن الإمام الهادي – عليهما السلام – (سبع الدجيل) ركبنا حافلة متوسطة الحجم متوجهين الى سامراء.. وكان الوقت قبيل الغروب وفي الطريق رأينا شخصاً واقفاً على جانب الطريق في منطقة خالية من المارة.. أشار إلينا، فأوقف السائق الحافلة بمحاذاته، فصعد فوجدناه شاباً عليه سيماء الوقار والسكينة والجلال والجمال والهيبة.. انجذبت له قلوبنا وهو يجلس بتواضع على الكرسي الخشبي الصغير الى جانب السائق.. وفور جلوسه أخذ يتلو آيات سور الدهر التي أنزلت لتخليد قصة صوم علي وفاطمة والحسنين وفضة عليهم السلام ثلاثة أيام على الماء القراح وتصدقهم بسحورهم وفطورهم على المسكين واليتيم والأسير وذلك وفاءً بنذرهم لشفاء الحسنين – عليهما السلام - .
عندما كان يتلو تلك الآيات اهتز قلبي وناجيت ربي: إلهي من يكون هذا الشاب الوقور الذي يتلو كتابك بهذا الصوت الحسن الفريد!
ولما أتم تلاوة تلك الآيات التفت الى السائق وقال:
عزمت على السفر الى خراسان لزيارة الإمام الرضا – عليه السلام - ؟
قال السائق: نعم، فهذه أمنيتي منذ سنين.
فقال: سيوفقك الله لها، فإذا وصلت مشهد، ستجد شخصاً بهذه الصفة، ثم ذكر له صفته وأخرج له مقداراً من المال وأعطاه له وقال: سلمه هذا المال وقل له:
هذا الذي طلبته ولم تطلب أكثر منه!
كان هذا السيد الحسيني يستمع لكلام الشاب مع السائق وقد امتلأ قلبه انجذاباً له وحباً له وهو لم يعلم بعد من هو وإن كان قد اقترب من معرفته، وفيما هو غارق في تلك الحالة توجه إليه الشاب وكأن هو هدفه الثاني من صعود تلك الحافلة بعد هدف إيصال تلك الأمانة للسائق.
قال هذا العبد الصالح في تتمة حكايته:
(ثم التفت هذا الشاب الوقور إلي ولاطفني وقال لي بحنان وبلغة فارسية محببة: أقاي حسيني حالت جطور است؟ أي: كيف حالك يا سيد حسيني؟
قلت: الحمد لله، نخاع مقطوع وشلل غير مرفوع.. أصبحت عاجزاً عن العمل مثلما عجز الأطباء عن شفائي..
ابتسم الشاب ونهض قليلاً من كرسيه ومسح على ظهري، وقال برأفة:
يا سيد ماذا تقول؟ لا أرى بك أثراً لقطع النخاع والشلل إلا أجد بك علة ثم التفت للسائق وقال: توقف، أريد النزول.
قال السائق: ولكن يا سيدي، لقد خيم الظلام وهذه فلاة خطرة غير مسكونة.
أجاب بحزم: توقف، أنزل هنا!
فتوقف السائق ونزل من الحافلة احتراماً للسيد، ونزلت أنا أيضاً مترجلاً وقد نسيت أنني مشلول، وهنا حدق بي السائق وزوجتي والمسافرون أيضاً متعجبين من زوال العجز والشلل عني... توجهنا جميعاً الى الشاب وقد غاب عن أعيننا.. فهتفت والدموع تنحدر على وجهي وهتف معي بعض المسافرين بحالة مشابهة قائلين: يا صاحب الزمان.. يا صاحب الزمان...
وكان المحبوب قد غاب في ظلمة الليل!
شمس خلف السحاب