الحشرُ الأصغر
كأنّه يوم البعث من القبور
الحجّ من أعظم شعائر الإسلام، وأفضل ما يَتقرَّب به الأنام إلى الملك العلَّام، لما فيه من إذلال النّفس وإتعاب البدن، وهجران الأهل والتَّغرُّب عن الوطن، ورفض العادات وتَرْك اللّذات والشهوات ".." وإنفاق المال وشدِّ الرحال، وتحمُّل مشاقّ الحِلِّ والارتحال ومقاساة الأهوال، والابتلاء بمعاشرة السَّفَلة والأنذال، فهو حينئذٍ رياضة نفسانيّة وطاعة ماليّة، وعبادة بدنيّة؛ قوليّة وفعليّة، وجوديّة وعدميّة، وهذا الجمع من خواصِّ الحجّ من العبادات التي ليس فيها أجمع من الصّلاة، وهي لم تجتمع فيها ما اجتمع في الحجّ من فنون الطّاعات ".."
عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم السلام، أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لَقِيَه أعرابي فقال:
«يا رسول الله، إنِّي خرجتُ أريدُ الحجّ ففاتني وأنا رجلٌ مُميل [ذو مال]، فمُرْني أنْ أصنعَ في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاجّ،
فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: انظر إلى أبي قُبَيس، فلو أنَّ أبا قُبيس لك ذهبة حمراء أَنْفَقْتَه في سبيل الله ما بلغت ما يبلغ الحاجّ،
ثمَّ قال: إنَّ الحاجَّ إذا أخذ في جهازه لم يَرفع شيئاً ولم يَضعه إلَّا كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيِّئات، ورَفع له عشر درجات، فإذا رَكِب بعيره لم يَرفع خفّاً ولم يَضعه إلَّا كَتب اللهُ له مثل ذلك.
فإذا طاف بالبيت خَرج من ذنوبه، فإذا سَعى بين الصَّفا والمَروة خَرج من ذنوبه، فإذا وَقف بعرفات خَرَج من ذنوبه، فإذا وَقَف بالمشعر الحرام خَرج من ذنوبه، فإذا رَمى الجمار، خَرَج من ذنوبه،
قال: فعَدَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله كذا وكذا موقفاً إذا وَقَفَها الحاج خَرَج من ذنوبه، ثمَّ قال:
أنَّى لك أن تَبلغ ما يَبلغ الحاجّ؟».
قال أبو عبد الله عليه السلام:
«ولا تُكتب عليه الذُّنوب أربعة أشهر، وتُكتَب له الحسنات إلَّا أن يأتي بكبيرة»".."
والحجُّ أفضل من الصِّيام والجهاد والرّباط، بل مِن كلِّ شيءٍ إلّا الصَّلاة.
وفي الحديث
«أمَا إنَّه ليس شيءٌ أفضل من الحجِّ إلَّا الصَّلاة، وفي الحجِّ هنا صلاة، وليس في الصَّلاة قبلكم حجّ». ".."
وقد تَطابق العقل والنّقل على أنَّ أفضل الأعمال أَحْمَزُها، وإنَّ الأجرة على قدر المَشَقَّة .
بل يُستحبُّ إدمان الحجِّ والإكثار منه، وإحجاجُ العيال ولو بالاستدانة، أو تقليل النَّفقة كما دلَّت عليه المعتبرة المستفيضة وليس ذلك إلَّا لِعظم هذه العبادة، ويكفي لفاعلها أنَّه يكون كَيَوم ولَدَتْه أمُّه في عدم الذَّنب.
نعم ينبغي المحافظة على صحَّة هذه العبادة المعظَّمة أوّلاً بتصحيح النّيّة، لأنَّ الحجَّ ".." معدودٌ في هذه الأعصار من أسباب الرِّفعة والافتخار والأبَّهة والاعتبار، بل هو ممّا يتوصَّل به إلى التجارة والانتشار ومشاهدة البلدان والأمصار ".." فيُخشى عليه من تَطَرُّق هذه الدَّواعي الفاسدة المبطلة للعمل في بعض الأحوال،
ولا خلاص من ذلك إلَّا بالإخلاص، ولا إخلاص إلَّا بالخلوص من شوائب العُجْب والرِّياء ".." وتطهيرالعبادات الدّينيّة عن التّلويث بالمقاصد الدّنيويّة،
ولا يكون ذلك إلَّا بإخراجِ حبِّ الدُّنيا من القلب، وقَصْر حبِّه على حبِّ الله تعالى، ويكون ذلك هو الدَّاعي إلى العمل ".." والطَّريق العامِّي إليه واضح مكشوف، ولكن عند العلم تُسكَب العَبَرات وتَكثُر العَثَرات، ولاستدامة الفكر في أحوال الدّنيا ومآلها ومزاولة علم الأخلاق الذي هو طبُّ النّفس وعلاجها، نَفْعٌ بَيِّن في ذلك وتأثيرٌ ظاهر، والله الموفِّق .
التَّفقُّه في الحجّ
كما أنَّه ينبغي التّفقُّه في الحجّ، فإنَّه كثير الأجزاء، جَمُّ المطالب، وافِرُ المقاصد. وهو مع ذلك غير مأنوس وغير مُتكرِّر، وأكثر النّاس يأتونه على ضجرٍ وملالةِ سَفَر، وضِيق وقت واشتغال قلب، مع أنَّ النَّاس لا يُحسنون العبادات المتكرِّرة اليوميّة مثل الطَّهارة والصَّلاة مع الفهم لها ومداومتهم عليها وكثرة العارفين بها،
حتى أنَّ الرَّجل منهم يَمضي عليه الخمسون سنة وأكثر ولا يُحسِن الوضوء فضلاً عن الصَّلاة، فكيف بالحجِّ الذي هو عبادة غريبة غير مألوفة، لا عهد للمكلَّف بها مع كثرة مسائلها وتَشعُّب أحكامها ".." وخصوصاً مع انضمام الطَّهارة والصَّلاة إليها، لِشَرطيَّة الأولى وجزئيَّة الثّانية، فإنَّ الخطب بذلك يعظم،
قال زرارة: «قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: جَعَلني اللهُ فِداك، أَسألُك في الحجِّ منذ أربعين عاماً فَتُفْتِيني؟ فقال: يا زرارة، بيتٌ يُحَجُّ قبل آدم بألفَي عام تريد أن تفتى مسائله في أربعين عاماً؟».
وعلى كلِّ حال، فلِلحجِّ أسرارٌ وفوائد لا يمكن إحصاؤها وإنْ خَفِيَت على المُلحدين كابن أبي العوجاء وأشباهه، «..لأنَّ مَنْ أَضَلَّه اللهُ وأعمى قلبَهُ اسْتَوْخَم الحقَّ فلم يَسْتَعِذْ به، وصار الشَّيطان وليَّه وربَّه، يوردُه مناهل الهَلَكة ثمّ لا يُصدره»، [كما في ردّ الإمام الصادق عليه السلام على ابن أبي العوجاء]
علّةُ تشريعِه
إذ من الواضح أنَّ الله تعالى سَنَّ الحجَّ ووَضَعه على عباده إظهاراً لِجلاله وكبريائه وعلوِّ شأنه وعِظَمِ سُلطانه، وإعلاناً لِرِقِّ النّاس وعبوديّتهم وذُلِّهم واستكانتهم، وقد عامَلَهُم في ذلك معاملة السَّلاطين لِرعاياهم، والملوك لمماليكهم ".."
وإنَّ اللهَ تعالى قد شرَّف البيتَ الحرام وأضافه إلى نفسه، واصطفاه لِقُدْسه، وجَعَلَه قياماً للعِباد ومقصداً يُؤَمُّ من جميع البلاد، وجعل ما حوله حَرَماً، وجعل الحَرَم أمْناً ".." ثمَّ أذَّن في النّاس بالحجِّ لِيَأتوه رجالاً ورُكباناً من كلِّ فجٍّ، وأَمَرَهُم بالإحرام وتغيير الهيئة واللِّباس، شُعثاً غبراً متواضعين مُستكينين، رافعينَ أصواتهم بالتّلبية وإجابة الدَّعوة،
حتى إذا أَتوه كذلك حَجَبَهُم عن الدُّخول، وأَوْقَفَهم في حُجبِهِ، يَدعونه ويَتضرَّعون إليه، حتى إذا طال تضرُّعهم واستكانتهم، ورَجموا شياطينهم بِجِمارهم، وخَلَعوا طاعةَ الشّيطان من رِقابهم، أَذِنَ لهم بتقريب قربانهم وقضاء تَفثَهِم ليَطَّهروا من الذُّنوب الّتي كانت هي الحِجاب بينهم وبينه،
وليَزوروا البيتَ على طهارة منهم، ثمَّ يُعيدهم فيه بما يظهر معه كمالُ الرِّقِّ وكُنْهُ العبوديّة، فَجَعَلهُم تارةً يَطوفون ببيته ويَتعلَّقون بأستاره، ويَلوذُون بأركانه. وأُخرى يَسعون بين يدَيه مشياً وعَدْواً ليَتبيَّن لهُم عزُّ الرّبوبيّةِ وذُلُّ العبوديّة، وليَعرفوا أنفسَهم ويَضعوا الكِبْرَ من رؤوسهم، ويجعلوا نِيرَ الخضوع في أعناقهم ويَستشعروا شعار المذلَّة.
".." وهذا من أعظم فوائد الحجّ، مُضافاً إلى ما فيه من التّذكُّر بالإحرام والوقوف في المشاعر العظام أحوالَ المحشر وأهوال يوم القيامة؛ إذ الحجّ هو الحَشْرُ الأصغر، وإحرام النّاس وتلبيتهم وحشرُهم إلى المواقف ووُقوفهم بها وَلِهِين مُتضرِّعين راجِين إلى الفلاح أو الخيبة والشّقاء، أشبهُ شيءٍ بخروجِ النّاس من أَجْداثِهم، وتوشُّحِهمِ بأكفانهم، واستِغاثتِهم من ذُنوبهم، وحشرِهِم إلى صعيدٍ واحدٍ: إمَّا إلى نعيمٍ أو عذابٍ أليمٍ.
بل حركات الحاجّ في طوافهم وسَعْيِهم ورجوعهم وعَوْدِهم يُشبه أطوارَ الخائف الوَجِلِ الُمضطرب المدهوش، الطّالب ملجأً ومفزعاً نحو أهل المحشر في أحوالهم وأطوارهم، وإلى ما فيه من اختبار العباد وطاعتهم وانقيادهم إلى أوامِره ونَواهيه، كما شَرَحَهُ أميرُ المؤمنين عليه السلام في المَروي عنه في (نهج البلاغة).
آية الله الشيخ محمّد حسن النجفي قدّس سرّه :- جواهر الكلام -كتاب الحجّ
موقع سرائر
كأنّه يوم البعث من القبور
الحجّ من أعظم شعائر الإسلام، وأفضل ما يَتقرَّب به الأنام إلى الملك العلَّام، لما فيه من إذلال النّفس وإتعاب البدن، وهجران الأهل والتَّغرُّب عن الوطن، ورفض العادات وتَرْك اللّذات والشهوات ".." وإنفاق المال وشدِّ الرحال، وتحمُّل مشاقّ الحِلِّ والارتحال ومقاساة الأهوال، والابتلاء بمعاشرة السَّفَلة والأنذال، فهو حينئذٍ رياضة نفسانيّة وطاعة ماليّة، وعبادة بدنيّة؛ قوليّة وفعليّة، وجوديّة وعدميّة، وهذا الجمع من خواصِّ الحجّ من العبادات التي ليس فيها أجمع من الصّلاة، وهي لم تجتمع فيها ما اجتمع في الحجّ من فنون الطّاعات ".."
عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم السلام، أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لَقِيَه أعرابي فقال:
«يا رسول الله، إنِّي خرجتُ أريدُ الحجّ ففاتني وأنا رجلٌ مُميل [ذو مال]، فمُرْني أنْ أصنعَ في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاجّ،
فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: انظر إلى أبي قُبَيس، فلو أنَّ أبا قُبيس لك ذهبة حمراء أَنْفَقْتَه في سبيل الله ما بلغت ما يبلغ الحاجّ،
ثمَّ قال: إنَّ الحاجَّ إذا أخذ في جهازه لم يَرفع شيئاً ولم يَضعه إلَّا كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيِّئات، ورَفع له عشر درجات، فإذا رَكِب بعيره لم يَرفع خفّاً ولم يَضعه إلَّا كَتب اللهُ له مثل ذلك.
فإذا طاف بالبيت خَرج من ذنوبه، فإذا سَعى بين الصَّفا والمَروة خَرج من ذنوبه، فإذا وَقف بعرفات خَرَج من ذنوبه، فإذا وَقَف بالمشعر الحرام خَرج من ذنوبه، فإذا رَمى الجمار، خَرَج من ذنوبه،
قال: فعَدَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله كذا وكذا موقفاً إذا وَقَفَها الحاج خَرَج من ذنوبه، ثمَّ قال:
أنَّى لك أن تَبلغ ما يَبلغ الحاجّ؟».
قال أبو عبد الله عليه السلام:
«ولا تُكتب عليه الذُّنوب أربعة أشهر، وتُكتَب له الحسنات إلَّا أن يأتي بكبيرة»".."
والحجُّ أفضل من الصِّيام والجهاد والرّباط، بل مِن كلِّ شيءٍ إلّا الصَّلاة.
وفي الحديث
«أمَا إنَّه ليس شيءٌ أفضل من الحجِّ إلَّا الصَّلاة، وفي الحجِّ هنا صلاة، وليس في الصَّلاة قبلكم حجّ». ".."
وقد تَطابق العقل والنّقل على أنَّ أفضل الأعمال أَحْمَزُها، وإنَّ الأجرة على قدر المَشَقَّة .
بل يُستحبُّ إدمان الحجِّ والإكثار منه، وإحجاجُ العيال ولو بالاستدانة، أو تقليل النَّفقة كما دلَّت عليه المعتبرة المستفيضة وليس ذلك إلَّا لِعظم هذه العبادة، ويكفي لفاعلها أنَّه يكون كَيَوم ولَدَتْه أمُّه في عدم الذَّنب.
نعم ينبغي المحافظة على صحَّة هذه العبادة المعظَّمة أوّلاً بتصحيح النّيّة، لأنَّ الحجَّ ".." معدودٌ في هذه الأعصار من أسباب الرِّفعة والافتخار والأبَّهة والاعتبار، بل هو ممّا يتوصَّل به إلى التجارة والانتشار ومشاهدة البلدان والأمصار ".." فيُخشى عليه من تَطَرُّق هذه الدَّواعي الفاسدة المبطلة للعمل في بعض الأحوال،
ولا خلاص من ذلك إلَّا بالإخلاص، ولا إخلاص إلَّا بالخلوص من شوائب العُجْب والرِّياء ".." وتطهيرالعبادات الدّينيّة عن التّلويث بالمقاصد الدّنيويّة،
ولا يكون ذلك إلَّا بإخراجِ حبِّ الدُّنيا من القلب، وقَصْر حبِّه على حبِّ الله تعالى، ويكون ذلك هو الدَّاعي إلى العمل ".." والطَّريق العامِّي إليه واضح مكشوف، ولكن عند العلم تُسكَب العَبَرات وتَكثُر العَثَرات، ولاستدامة الفكر في أحوال الدّنيا ومآلها ومزاولة علم الأخلاق الذي هو طبُّ النّفس وعلاجها، نَفْعٌ بَيِّن في ذلك وتأثيرٌ ظاهر، والله الموفِّق .
التَّفقُّه في الحجّ
كما أنَّه ينبغي التّفقُّه في الحجّ، فإنَّه كثير الأجزاء، جَمُّ المطالب، وافِرُ المقاصد. وهو مع ذلك غير مأنوس وغير مُتكرِّر، وأكثر النّاس يأتونه على ضجرٍ وملالةِ سَفَر، وضِيق وقت واشتغال قلب، مع أنَّ النَّاس لا يُحسنون العبادات المتكرِّرة اليوميّة مثل الطَّهارة والصَّلاة مع الفهم لها ومداومتهم عليها وكثرة العارفين بها،
حتى أنَّ الرَّجل منهم يَمضي عليه الخمسون سنة وأكثر ولا يُحسِن الوضوء فضلاً عن الصَّلاة، فكيف بالحجِّ الذي هو عبادة غريبة غير مألوفة، لا عهد للمكلَّف بها مع كثرة مسائلها وتَشعُّب أحكامها ".." وخصوصاً مع انضمام الطَّهارة والصَّلاة إليها، لِشَرطيَّة الأولى وجزئيَّة الثّانية، فإنَّ الخطب بذلك يعظم،
قال زرارة: «قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: جَعَلني اللهُ فِداك، أَسألُك في الحجِّ منذ أربعين عاماً فَتُفْتِيني؟ فقال: يا زرارة، بيتٌ يُحَجُّ قبل آدم بألفَي عام تريد أن تفتى مسائله في أربعين عاماً؟».
وعلى كلِّ حال، فلِلحجِّ أسرارٌ وفوائد لا يمكن إحصاؤها وإنْ خَفِيَت على المُلحدين كابن أبي العوجاء وأشباهه، «..لأنَّ مَنْ أَضَلَّه اللهُ وأعمى قلبَهُ اسْتَوْخَم الحقَّ فلم يَسْتَعِذْ به، وصار الشَّيطان وليَّه وربَّه، يوردُه مناهل الهَلَكة ثمّ لا يُصدره»، [كما في ردّ الإمام الصادق عليه السلام على ابن أبي العوجاء]
علّةُ تشريعِه
إذ من الواضح أنَّ الله تعالى سَنَّ الحجَّ ووَضَعه على عباده إظهاراً لِجلاله وكبريائه وعلوِّ شأنه وعِظَمِ سُلطانه، وإعلاناً لِرِقِّ النّاس وعبوديّتهم وذُلِّهم واستكانتهم، وقد عامَلَهُم في ذلك معاملة السَّلاطين لِرعاياهم، والملوك لمماليكهم ".."
وإنَّ اللهَ تعالى قد شرَّف البيتَ الحرام وأضافه إلى نفسه، واصطفاه لِقُدْسه، وجَعَلَه قياماً للعِباد ومقصداً يُؤَمُّ من جميع البلاد، وجعل ما حوله حَرَماً، وجعل الحَرَم أمْناً ".." ثمَّ أذَّن في النّاس بالحجِّ لِيَأتوه رجالاً ورُكباناً من كلِّ فجٍّ، وأَمَرَهُم بالإحرام وتغيير الهيئة واللِّباس، شُعثاً غبراً متواضعين مُستكينين، رافعينَ أصواتهم بالتّلبية وإجابة الدَّعوة،
حتى إذا أَتوه كذلك حَجَبَهُم عن الدُّخول، وأَوْقَفَهم في حُجبِهِ، يَدعونه ويَتضرَّعون إليه، حتى إذا طال تضرُّعهم واستكانتهم، ورَجموا شياطينهم بِجِمارهم، وخَلَعوا طاعةَ الشّيطان من رِقابهم، أَذِنَ لهم بتقريب قربانهم وقضاء تَفثَهِم ليَطَّهروا من الذُّنوب الّتي كانت هي الحِجاب بينهم وبينه،
وليَزوروا البيتَ على طهارة منهم، ثمَّ يُعيدهم فيه بما يظهر معه كمالُ الرِّقِّ وكُنْهُ العبوديّة، فَجَعَلهُم تارةً يَطوفون ببيته ويَتعلَّقون بأستاره، ويَلوذُون بأركانه. وأُخرى يَسعون بين يدَيه مشياً وعَدْواً ليَتبيَّن لهُم عزُّ الرّبوبيّةِ وذُلُّ العبوديّة، وليَعرفوا أنفسَهم ويَضعوا الكِبْرَ من رؤوسهم، ويجعلوا نِيرَ الخضوع في أعناقهم ويَستشعروا شعار المذلَّة.
".." وهذا من أعظم فوائد الحجّ، مُضافاً إلى ما فيه من التّذكُّر بالإحرام والوقوف في المشاعر العظام أحوالَ المحشر وأهوال يوم القيامة؛ إذ الحجّ هو الحَشْرُ الأصغر، وإحرام النّاس وتلبيتهم وحشرُهم إلى المواقف ووُقوفهم بها وَلِهِين مُتضرِّعين راجِين إلى الفلاح أو الخيبة والشّقاء، أشبهُ شيءٍ بخروجِ النّاس من أَجْداثِهم، وتوشُّحِهمِ بأكفانهم، واستِغاثتِهم من ذُنوبهم، وحشرِهِم إلى صعيدٍ واحدٍ: إمَّا إلى نعيمٍ أو عذابٍ أليمٍ.
بل حركات الحاجّ في طوافهم وسَعْيِهم ورجوعهم وعَوْدِهم يُشبه أطوارَ الخائف الوَجِلِ الُمضطرب المدهوش، الطّالب ملجأً ومفزعاً نحو أهل المحشر في أحوالهم وأطوارهم، وإلى ما فيه من اختبار العباد وطاعتهم وانقيادهم إلى أوامِره ونَواهيه، كما شَرَحَهُ أميرُ المؤمنين عليه السلام في المَروي عنه في (نهج البلاغة).
آية الله الشيخ محمّد حسن النجفي قدّس سرّه :- جواهر الكلام -كتاب الحجّ
موقع سرائر